- الإعلانات -
إشكل التونسية من أقدم المحميات الطبيعية جمال آسر وتنوع بيئي يختزل تاريخ الكوكب الأزرق | القدس العربي

منذ 9 ساعات

تونس ـ «القدس العربي»: في أعماق الطبيعة الأفريقية وبعيدا عن ضوضاء الحياة الحديثة، تقع الحديقة الوطنية بإشكل وهي محمية طبيعية تونسية متميزة وفريدة من نوعها على المستوى العالمي. هنا تتجمع أعداد لا تحصى من الطيور بمختلف أنواعها وأشكالها إلى جانب حيوانات نادرة تكاد تتعرض للانقراض في المنطقة، وجدت في محمية إشكل وسكونها العذب ملجأ للعودة إلى الطبيعة بكل ما فيها من جمال أخاذ وساحر يسرق القلوب ويشدّ العيون في صفاء روحي والتحام نادر مع الطبيعة الأم.
وتتميز المحية بانها تضم منظومتين بيئيتين واحدة رطبة وأخرى جبلية. وتقع على بعد 70 كيلومترا شمال العاصمة تونس وتحديدا في ولاية بنزرت التي تتربع شامخة في أقصى شمال البلاد وشمال القارة السمراء. وتعود تسمية المحمية إلى جبل إشكل الذي يتوسطها صامدا على مر العصور وشاهدا على حقب مختلفة وحضارات عظيمة مرّت من تلك الربوع وعشقت جمالها الآسر وسحرها الإستثنائي.
تنوع جغرافي وبيئي
تبلغ مساحة المحمية 12600 هكتار وتتشكل من ثلاثة مكونات رئيسية، وهي البحيرة الكبيرة الممتدة على مرمى البصر، والجبل المغطى بكساء نباتي من أشجار مختلفة شكلت غابة خضراء وارفة الظلال، وأخيرا السباخ التي لها عشاقها ومريدوها من مخلف الكائنات الحية. وتصب في بحيرة إشكل ستة أودية هي وادي سجنان وغزالة ودويميس وتينجة وجومين ووادي ملاح، وهي محملة بالمياه العذبة التي تحتاجها بعض الأنواع من النباتات لتنمو وتتجهز لتكون طعاما لأنواع عديدة من الطيور المهاجرة في سلسلة غذائية عجيبة لا يعرف سرها إلا من أبدع هذا الكون.
يختلف منسوب المياه في البحيرة بحسب الفصول كما تختلف نسبة الملوحة فيها أيضا بحسب الفصل وكمية التساقطات التي تشهدها المنطقة. ففي الشتاء تصب الأودية المشار إليها والمشكلة من جداول تشكلها بدورها عيون المياه التي تعج بها الأقاليم المجاورة. ويساهم تدفق مياه الأودية في ارتفاع منسوب المياه العذبة في البحيرة والتخفيض في نسبة الملوحة داخلها. لكن صيفا ترتفع نسبة الملوحة بسبب انخفاض منسوب مياه الأودية ودخول مياه البحر إلى هذه البحيرة العجيبة عبر قناة وادي تينجة الذي يربط بحيرة إشكل ببحيرة بنزرت التي تربطها بدورها قناة بالبحر المتوسطي.
كما أدت إقامة ثلاثة سدود على بعض الأودية لتأمين حاجيات المواطنين في الولايات المجاورة من مياه الشرب والإنتاج الفلاحي، إلى خفض كميات المياه العذبة التي تصب في البحيرة. وأدى ارتفاع نسبة الملوحة إلى تقلّص قدوم بعض أنواع الطيور المهاجرة المشار إليها والتي تتغذى وتقتات من نباتات المياه العذبة التي باتت مهددة بالإنقراض وهو ما يستدعي تدخلا عاجلا من السلطات التونسية حفاظا على التوازن البيئي.
كما توجد في إشكل عيون مياه كبريتية ساخنة على غرار عين النقراز ويستغل البعض مياه هذه العيون للتداوي، لكن فعليا لم تتم إقامة محطات استشفائية في محيط هذه العيون على غرار ماهو حاصل في مناطق أخرى مثل قربص وجبل الوسط وحمام بورقيبة. وتضم المحمية أيضا شلّالات تقع على وادي الزيتون غير مستغلة أيضا ولم يتم التعريف بها سياحيا كما يجب لأسباب مجهولة، لكن يرجح أن ذلك يعود إلى قرار اتخذته الدولة التونسية يتمثل في عدم تحويل ولاية بنزرت إلى قطب سياحي رغم جمالها وذلك بالنظر إلى وجود قواعد عسكرية هامة بحرية وجوية وبرية، ومن غير المحبذ أن يتم الاقتراب منها من قبل التونسيين والأجانب لأسباب أمنية.
كائنات لا تحصى
تضم محمية إشكل حوالي 600 نوع من الأشجار على غرار الخروب دائمة الخضرة والتي تنتشر بكثافة في المنطقة المتوسطية، كما تضم أنواعا لا تحصى من النباتات والشجيرات التي تنمو وتتكاثر بسبب التساقطات الهامة على المحمية خلال فصل الشتاء على وجه الخصوص. وتضم أيضا أنواعا رائعة من الزهور منها زهور الأوركيد الجميلة التي تغنى بها الشعراء والتي تنتمي إلى فصيلة السحلبيات التي عاصرت مختلف التحولات على كوكب الأرض وتعتبر من أقدم أنواع الزهور على وجه البسيطة. ويشعر الزائر وكأنه في كوكب آخر أو كأنه عاد عصورا إلى الوراء وإلى ما قبل التاريخ ليعيش مع نباتات وأزهار وأعشاب نادرة في رحلة إلى الأصل والجذور والنقاء.
ويوجد في محمية إشكل أيضا قرابة 300 ألف نوع من الطيور المائية بعضها مستقر هناك منذ عصور و«طاب له المقام» وبعضها الآخر ينتمي إلى فئة الطيور المهاجرة التي تحل موسميا بالمحمية قادمة خصوصا من قارتي أفريقيا وأوروبا. ومن بين أنواع هذه الطيور الإوز الرمادي والبط الصفار وطائر اللقلق والعفاس الأحمر بالإضافة إلى الطيور الكاسرة ومنها النسور والصقور وغيرها. وتستوطن الخفافيش أيضا محمية إشكل وتتخذ من مغارة في سفح الجبل في وادي عين العتروس موطنا لها فهي بحاجة إلى الرطوبة لتعيش وتتكاثر وهو ما توفره مغارة جبل إشكل.
وتتضمن المحمية أنواعا عديدة من الحيوانات على غرار الثعالب والخنازير البرية وكلاب الماء والسلاحف وغيرها، والتي ساعدها التنوع البيئي للمحمية وملاءمتها لكل أشكال الحياة على الاستقرار والتكاثر. فهناك في إشكل حديقة حيوانات لكائنات تتنقل بحرية لا تعيقها أقفاص ولا حدود يمكن أن تمنع اندماجها مع بيئتها الثرية بالغذاء والماء والهواء النقي والطقس المعتدل وجميع العناصر المساعدة على تكاثر الأجناس وتطورها.
ويبقى أهم الحيوانات الموجودة هو جاموس الماء أو جاموس إشكل كما يطلق عليه البعض، وهو عدواني وشرس وفريد من نوعه في البيئة التونسية، ويصل وزنه إلى أكثر من 500 كيلوغرام ويعشق المياه الموحلة التي يغطس ويتمرغ فيها. ويؤكد البعض على أن أميرة إيطالية كانت قدمته هدية إلى ملك تونس أحمد باشا باي أواسط القرن التاسع عشر وأنه أحب هذه الهدية بالنظر إلى مصدرها، فوضعه في محمية إشكل وأمن له حراسة عسكرية أزعجت المتساكنين في ذلك الوقت خاصة وأن العسس قد بالغوا في حماية الجاموس على حساب راحة البشر.
لكن في أواسط القرن العشرين وقبيل انهيار النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري في تونس على يد الحبيب بورقيبة ورفاقه في الحزب الدستوري، تمت استباحة هذه الجواميس بالصيد للانتفاع من لحومها وجلودها. فقد زال الخوف من الملك والعائلة الحسينية مع ضعف آخر ملوكها محمد الأمين ووهنه وأفول نجمه وارتفاع أسهم شباب الحزب الدستوري الذي انقض على الحكم.
وكاد الصيد الكثيف لجاموس إشكل أن يتسبب في استنزافه وإنقراضه لولا تدخل الدولة من خلال الإدارة العامة للغابات التي منعت هذه الجريمة بحق الجاموس بعدة إجراءات صارمة تم اتخاذها. وبذلك عادت إشكل عامرة بجواميسها التي تعطي الإنطباع للناظر إليها وهي تسبح في المياه بأن المشهد يتعلق بمكان ما في أدغال القارة السمراء وليس في أقصى شمالها.
حقب مختلفة
عثر في محمية إشكل وتحديدا في عين الراقدة على أصناف من المتحجرات بعضها يتعلق ببقايا حيوان الماموث الذي يعود وجوده على كوكب الأرض إلى ملايين السنين وهو يشبه الفيل من حيث الشكل ولكنه انقرض بفعل التحولات المناخية التي شهدتها الأرض. ويدحض هذا الاكتشاف مقولة أن تونس كانت تغمرها المياه في العصور الغابرة التي سبقت ظهور الإنسان على كوكب الأرض خاصة وأن البلاد أيضا تعج من شمالها إلى جنوبها ببقايا الديناصورات المتحجرة والكائنات السابقة لوجود الإنسان.
كما استوطن الإنسان البدائي في عصور ما قبل التاريخ محمية إشكل باعتبارها بيئة مشجعة على الحياة البدائية بكهوفها ومنابع مياهها وحيواناتها التي كانت مصدر غذاء لهذا الإنسان الذي برع في صيدها والتهام لحومها. وقد وجدت آثار لهذا الإنسان متمثلة في أدوات صيد وأوان بالإضافة إلى الأضرحة والقبور التي تدل على الطقوس الجنائزية التي كانت تمارس في العهود الغابرة.
وتوجد بالحديقة الوطنية بإشكل آثار فينيقية وأخرى قرطاجية بونيقية أو بونية وهذا غير مستغرب باعتبار وقوع المحمية قرب حواضر فينيقية وقرطاجية هامة على غرار أوتيكا أو عتيقة وأيضا بنزرت. كما توجد بالمحمية آثار رومانية باعتبار أن الرومان استولوا لاحقا على كل مدن قرطاج وممتلكاتها وحتى علومها وآدابها وفلسفتها وقوانينها، ولم تزدهر إمبراطوريتهم في شتى الميادين إلا بعد الاستيلاء على إرث قرطاج مثلما يؤكده المؤرخون.
ولم يقع الاهتمام بالمكان مع الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا لا من قبل ولاة الأمويين والعباسيين في القيروان ولا من قبل دول الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين ولا حتى الموحدين. وحتى بني هلال الغزاة الباحثين عن افتكاك الأراضي الخصبة لم تستهويهم منطقة إشكل ولا توجد لهم آثار بتلك الرقعة من تراب البلاد التونسية أو أفريقية الإسلامية التي منحت إسمها إلى القارة برمتها.
لكن الأمر اختلف مع دولة الحفصيين في مدينة تونس والتي حكمت البلاد التي كانت تضم إلى جانب تونس غرب ليبيا وشرق الجزائر ما بين سنة 1229 و1574 للميلاد. فقد أصبحت إشكل محجا لسلاطين وأمراء بني حفص للراحة والاستجمام والصيد شأنهم شأن المستعمرين العثمانيين الذين أنهوا دولة الحفصيين وبدأ حكمهم مع الباشوات ثم الدايات فالبايات المراديين الذي كان حكمهم وراثيا مع دفع الجزية للأستانة، إلى أن أعلنت الدولة الحسينية ممثلة بحمودة باشا الحسيني انفصالها رسميا عن الباب العالي مع بداية القرن التاسع عشر.
وفي عهد الدولة الحسينية عرفت إشكل اهتماما متزايدا خاصة في عهد محمد الصادق باي الذي عيّن رسميا موظفا ساميا برتبة عسكرية مهيبة للإشراف على حراسة المحميّة والجاموس. وواصلت دولة الاستقلال العناية بهذه البقعة الاستثنائية وحولتها إلى حديقة وطنية وأحصت الكائنات الحية التي تعيش بها وحمت جاموسها من الانقراض بسبب الصيد العشوائي.
تراث عالمي
تمّ ترسيم الحديقة الوطنية بإشكل بقائمة التراث الدولي الطبيعي لليونسكو سنة 1991 وبالتالي فقد باتت تراثا عالميا يخص الإنسانية بأسرها وليس فقط التونسيين وذلك بالنظر إلى ثراء مكوناتها الطبيعية. ومن مميزاتها أنها الموقع الوحيد في العالم المرسّم بالاتفاقيات الدولية الثلاث لحماية الطبيعة مثل اتفاقية رمسار التي تهدف إلى الحفاظ على المناطق الرطبة والاستخدام المستدام لها.
تضم كذلك متحفا بيئيا تم إنجازه سنة 1989 ويضم الكائنات الحية المتواجدة بالحديقة يقصده الزوار لمعرفة كنوز هذه الجنة الطبيعية على أرض الخضراء من خلال المعروضات الحيوانية والنباتية. وقد بني المتحف على الجبل وهو مطل على البحيرة وبالإمكان مشاهدة الطبيعة الخلابة لإشكل من هضبته المرتفعة والجلوس بالمقهى والمطعم المجاورين له ومشاهدة البحيرة وطيورها.
إن محمية إشكل هي كنز فريد من نوعه ليس فقط في تونس وإنما في العالم بأسره، ويعتبرها البعض إلى جانب محميات أخرى منتشرة في أركان المعمورة، رئة يتنفس منها كوكب الأرض ويحافظ على ديمومته وتطور الحياة الطبيعية على سطحه. ورغم جمال هذه المحمية التي تحظى باهتمام اليونسكو ورعايتها إلا أنها غير معروفة على الوجه الأمثل وليست قبلة لزوار تونس الأجانب. وتقتصر زيارتها على التونسيين من تلاميذ وطلبة المدارس والجامعات، والباحثين في الداخل عن سياحة المغامرات، وأيضا العائلات التونسية الفارة خلال العطل من جحيم وضجيج المدن.
ويؤكد العارفون بهذه المحمية والمطلعون على سوق السياحة العالمي أن إشكل وغيرها من المحميات الطبيعية التي تعجّ بها الخضراء قادرة على التنويع في قطاع السياحة من خلال جلب نوعية أخرى من السياح تختلف عن المعتادة على غرار هواة المغامرة أو المهتمين بتطور ونشأة الكائنات الحية من الأساتذة الجامعيين وكبار الباحثين في أرقى المؤسسات الأكاديمية والبحثية. لكن الدولة ممثلة بوزارة السياحة وديوان السياحة لا تُعرف بتاتا بالمخزون البيئي لمحمياتها وتقتصر على التعريف بسياحة الشواطئ والفنادق على الشريط الساحلي، وتقوم بدرجة أقل بالترويج إلى السياحة الصحراوية التي ما زالت لم تأخذ حظها كما يجب.
كما بالإمكان استغلال محمية إشكل في السياحة الأثرية والتاريخية من خلال وضعها ضمن مسلك سياحي يخص هذا النوع من السياحة باعتبار أن السائح الأجنبي لا يمكنه القدوم من تلقاء نفسه نظرا لجهله بوجودها. وبإمكان هذا النشاط السياحي أن يخلق حركية تعود بالنفع على سكان المحمية والمناطق المجاورة لها بعد إنشاء سلسلة من المطاعم والمقاهي ومحلات للصناعات الحرفية والمنحوتات لحيوانات وطيور المحمية.
ويعارض كثير من التونسيين إقامة مركبات فندقية لإيواء الزائرين ومحطات استشفائية بالمياه المعدنية بهذه المحمية وبغيرها من المحميات الطبيعية، لأن ذلك سيغير من المشهد العام، ويضر بالحياة الطبيعية ولن تصبح هناك محمية من الأساس بل سيتعلق الأمر حينها بمنتجع سياحي. وبالتالي فمن المحبذ أن تبقى إشكل عذراء على طبيعتها مع التعريف بها محليا وخارجيا حتى لا يحرم منها عشاق الجمال على هذا الكوكب الأزرق الذي خربته يد الإنسان.
- الإعلانات -
#إشكل #التونسية #من #أقدم #المحميات #الطبيعية #جمال #آسر #وتنوع #بيئي #يختزل #تاريخ #الكوكب #الأزرق #القدس #العربي
تابعوا Tunisactus على Google News
- الإعلانات -