الروائي التونسي كمال الرياحي في “البيريتا يكسب دائماً”: سرد متشابك يعرّي الواقع ويعيد طرح الأسئلة الحارقة
تتشابك أحداثها منذ البداية وتقحمك في عالم الجريمة لتعيد كتابة تاريخ تونس ما بعد الثورة، تلك هي رواية “البيريتا يكسب دائما”، رابع إصدار للروائي التونسي كمال الرياحي بعد “المشرط” و”الغوريلا” و”عشيقات النذل“. رواية تعيد طرح الأسئلة السياسيّة والاجتماعيّة بأسلوب موغل في التمرّد والخروج عن المألوف، فالبطل مسدّس ايطالي من نوع بيريتا، الذي اغتيل به السياسي شكري بلعيد ضمن سلسلة اغتيالات سياسيّة في تونس ما بعد الثورة. اغتيال غيّر مجرى أحداث الثورة وتاريخ تونس المعاصر لتبدأ بعده حرب باردة شرسة على المستوى الايديولوجي والاجتماعي والسياسي. أمام خذلان الجهات المعنيّة والقضاء والمجتمع المدني التونسي، يعيد الرّياحي كتابة هذه الملحمة ليؤبّدها ويحرج جميع المتواطئين في هذه القضايا الحارقة.
تدور أحداث الرّواية حول جريمة قتل ليجد القارئ نفسه أمام متاهة البحث عن الجاني، ثم يكتشف أنه أمام سلسلة من الجرائم والأحداث متتالية وعديد شخصيات يجمع بينهم انتماؤهم لعالم المهمّشين والمقصيّين في مجتمع يدّعي الفضيلة. شخصيات لم يعتد القارئ العربي على ولوج عالمها الغامض حيث الجريمة والعنف والدّعارة، تعاني في أغلبها من اضطرابات نفسيّة وسلوكية، والخيط النّابض بين كلّ هذه الأحداث هو البيريتا الذي حسب العنوان المخاتل “يكسب دائما”، بتنقّل الرواية بين شخصيات الرّواية ليحيلنا في كلّ مرّة إلى عوالم جديدة حيث اللّصوص والشّرطة والعشيقات والإعلاميّين والكتّاب. مسدس يتحوّل إلى شخصيّة تراجيديّة محيّرة فتتشابك الأسماء، وتتواتر الأحداث بنسق جنونيّ ليصبح هذا “الشّيء” كائنا حيّا يثير ويتأثّر، ينسج بنفسه عوالم جديدة ويطرح الأسئلة برمزيّة مزعجة بين الواقع والتّخييل، بين ما ندركه وما نخشاه، بين ما نريد معرفته وما نرفض حتى تخيّله.
فالمحقّق علي كلاب يبحث في جريمة قتل وهو نفسه يتلذّذ بطريقة مرضيّة موغلة في بثّ الرّعب من حوله في قتل الكلاب والتنكيل بجثثها وتركها تتعفّن أمام الجميع بل يستمتع أيضا بالتقاط الصور معها. ملازمون يحققون في قضية وهم أيضا متهمون بجريمة سرقة البيريتا وتدور حولهم الشبهات. بيّة شخصيّة غامضة شاهدة على جريمة قتل ومتورّطة أيضا في جريمة الافتراء على الملاكم الأسترالي، ثم جريمة اغتيال شكري بلعيد وشخصية أخرى تُدعى يوسف غربال تريد قتل ماري بنفس السلاح دائما البيريتا.
يقحمنا الكاتب في عالم من الفوضى المربكة أقرب ما تكون من واقعنا المعيش لتونس ما بعد الثورة، لكن بأسلوب إبداعيّ يغلب عليه الحوار. منذ الصفحة الأولى يكتسح الحوار جسد الرّواية ويحلّ محلّ السّرد، لتعبّر الشخصيات عن ذاتها وتناقضاتها ومدى هشاشتها المتوارية وراء أقنعة الجريمة والعنف. تمرّد الشخصيات على المجتمع يتناغم معه تمرّد الكاتب على الأسلوب الرّوائي التقليديّ، فتتابع الأحداث وتتشابك، ويزجّ بك الكاتب في بحرٍ من التفاصيل، وتأخذك الحوارات فلا تجد لصوت الكاتب صدى. فشخصيات الرّياحي تسكن الحيّز الزمنيّ والمكانيّ للرّواية، تعبّر عن مشاغلها وهواجسها، تثور وأحيانا تنهار بلغتها الخاصة بعيدا عن النّفاق أو الزيف الاجتماعي أوعن أيّ حكم أخلاقي أو قيمي لملفوظاتها. والرّواية عند الرّياحي ضربٌ من السينما، في تقنياتها وصورها ودقّة التفاصيل وضبابيّة الرّؤية واكتساح الحوار للجسد الرّوائي وحيرة المتلقّي أمام اصطدامه في كلّ منعرج للانعطافات الدّراميّة بما لم يكن يتوقّعه. تتميّز هذه الرّواية بجماليّة متفرّدة وأسلوب ماتع تتداخل فيه الأجناس وتغيب فيه الرّتابة شكلا ومضمونا.
تسافر بك الرّواية بسلاسة مُغرية بين يوميّات الكاتب يوسف غربال وتحقيقات الشّرطة، وشذرات من كوابيس اليقظة، وحوارات ترمي بك في عوالم الجنس والعنف والواقعيّة القذرة… ما يجعلك ربّما تتوهّم أنّك أمام سيرة ذاتيّة تختبئ وراء قناع “تخيّل”، ثم توغل في النص السّرديّ لتقف أمام حقائق تاريخيّة من واقعنا القريب كأحداث الثورة وسقوط النظام وكلّ ما يهوي معه من رموز ومعان وقضايا.
“البيريتا يكسب دائما” رواية كلّ الحكايات وكلّ السرديّات، الواقع والخيال، جميعا في “سلّة قمامة” واحدة مع البيريتا رمز الموت والحياة الجديدة الأبديّة. وهذه الشّخصيّة، علي كلاب، نموذج للنظام القديم، للواقع التونسيّ ما قبل الثورة وربّما أيضا ما بعدها: رعب وقتل وتحقيقات وقهر وصراخ وبكاء وجثث. لكنّ علي كلابْ بقدر ما يثير فيك من اشمئزاز ونفور، إلا أنّه في لحظة ما يسكنك ويغريك لتجد متعةً غريبة في تقصّي حركاته وسكناته والتلذّذ بهذا الكم الهائل من العنف والقتل والكلام البذيء. عالم من السّاديّة المرعبة تعرّينا وتعرّي العالم من حولنا لتعيد طرح الأسئلة الأولى: هل الإنسان شرير بطبعه؟ هل نستحقّ الحريّة؟ هل الحياة فعلا وعد بالسعادة؟ أليست السّعادة هنا مجرّد وهم ومجرّد حلم هارب؟
يقدّم الرّياحي لنا شخصيّة مركّبة، ويحفر في خباياها ليحيلنا إلى حقيقة مفادها أن هذا الكائن، هذا الإنسان، متعدّد وفكّ شيفرة حقيقة كينونته ليس بالأمر الهيّن. علي كلابْ الموغل في الشرّ هو نفسه يُقفل على نفسه الباب في مكتبه ليجهش بالبكاء وليستسلم لحظة صدقٍ لإنسانيّته المعطوبة. هذه الشّخصية التي أرعبت الجميع هي أيضا هشّة منكسرة في أعماقها، مسكونة بالهلوسة، بكوابيس اليقظة، بمنطق المؤامرة، بالأفكار السوداء التي تطارده وتطاردنا جميعا لتتلاشى الحدود بين الواقع والكابوس، بين الخير والشرّ، بين الوعي واللاوعي.
وهذه رواية جعلت من شخصيّاتها أشباحا تلاحق متاهة المعنى والحقيقة وحلم الحريّة والسّعادة. فهل تحققت الثورة؟ هل حقّقنا مجد الشّهداء؟ هل ندرك حقيقة ما حصل يوم 14 كانون الثاني/يناير؟ هل حصلت ثورة فعلا؟ أم هو الخيال والتخييل والسّراب؟ أليس البيريتا هو المسدّس الذي قتل شكري بلعيد ويصوّب لكلّ عاشق للانعتاق في مجتمع الردّة والمافيا واللّصوص والايديولوجيا المقيتة؟ أسئلة من لهيب والرياحي لا يجيب عنها ولو همسا، فهو يزجّ بالقارئ داخل قارورة الحيرة ويُغلق خلفه عُنق الزّجاجة. يدفع بالقارئ دفعا للتساؤل بدون أن يشعر ولو للحظة واحدة أنّ كمال الرّياحي يستدرجهُ إلى دائرة الحيرة.
البيريتا، علي كلاب، بيّة، يوسف، مريم، ملاك، ستيلا، الحشّاش، عائدة، جبّار، ولاس، الأسترالي… شخصيّات لا تنتهي وحكايات متشابكة في مغامرة سرديّة بين الحوار والسّرد وصخب الأصوات والمونولوج والكلام المسجّل على الهاتف الجوّال واليوميّات المكتوبة والصحف المتناثرة. كلّ هذا يجعل من الكتابة حالة من الجنون الإبداعي بعيدا عن الكليشيهات والنّمطيّة. تمرّد حقيقيّ ونقد لاذع للبنية الرّوائية المألوفة وخاصة لمفهوم البطل ودور النّاقد.
يطرح كمال الرّياحي من خلالها جدليّة “الواقع والمتخيّل” أسئلة مربكة. ما هي حدود التّخييل في العمل الرّوائي وكيف للواقع أن يتجاوز التّخييل غرابةً وحيرةً؟ ألسنا اليوم نعيش في عالم من الفنتازيا التراجيديّة، أو لنقل عالما من الفنتازيا المجنونة كأنّها الهذيان حيث الصّور الكاريكاتوريّة التي تقشعرّ لها الأبدان؟ فنحن اليوم في واقع مضحك حدّ البكاء بل حدّ المحرض على الانتحار، ومبكٍ حدّ اللامبالاة بل حدّ جعله كرنفالا وموسيقى ورقصا لكنّه رقص على جثث الكلاب وآهات بائعات الهوى والمضيّ إلى أقصى أنواع العنف. فحتى الجنس يبدو في هذه الرّواية كرغبةٌ مجنونة في التعذيب وسحق الآخر فيحضر الجسد بلغته الصّارخة من خلال الكتابة الايروسيّة في مشاهد موغلة في الفحش. وهذا الآخر ليس سوى الإنسان المعاصر الجريح المنكسر، السّجين خلف تراكمات الذكريات والهواجس والعقد النّفسية وصوت الطّفولة المشوّهة. والكلّ على حدّ سّواء، أنثى أو ذكر، يشارك في نسج هذا العالم حيث المتخيّل واقعٌ والواقعُ متخيّلٌ.
رواية تعلن العصيان والتمرّد بقلم كاتب يؤمن بضرورة الاختلاف وتجديد المفاهيم وإعادة تفكيك المعنى القديم لبنائه من جديد. إنها تختصر الانسان في جميع تناقضاته العميقة، وتعرّي هشاشة الواقع من حولنا كما تجعل القارئ يدرك أنّ العالم عوالم، والحقيقة سراب، وأنّ الفنّ وحده القادر على تجديد المعنى ليكون القاسم المشترك للإنسانيّة جمعاء.
كمال الرياحي: “البيريتا يكسب دائماً“
منشورات المتوسط، ميلانو 2019
240 صفحة.
الصورة من المصدر : www.alquds.co.uk
مصدر المقال : www.alquds.co.uk