العدالـة الانتقـاليـة في تونـس: المسـار المـنقوص .. والنهاية المتعثرة
بعد 9 سنوات من الثورة، وما يزيد على 4 سنوات لبداية تجربة العدالة الانتقالية
في تونس، ما يزال الجدل يحف مسارها.
وتعتبر العدالة الانتقالية إحدى المحطات الكبرى للتحول الديمقراطي, وإن كان
شرط الإرادة السياسية ضرروي الا أنه بدوره رهن لميزان القوى السياسية بين قوى الشد
إلى الوراء وقوى التواقة إلى الأمام. ويتخلل مسار العدالة الانتقالية ثلاثة تجاذبات كبرى: الأول بين من يتصور أن
الثورة انتهت وبين من ينادي بمواصلتها وبالتحديد بين من يريد غلق ملف العدالة الانتقالية
عبر المصالحة وبين من يريد المحاسبة أولا
العدالة الانتقالية بين المصالحة والمحاسبة
تعتبر جدلية المحاسبة والمصالحة من أكثر النقاط حساسية في مقاربة العدالة الانتقالية.
حيث تخضع لسجالات بين السياسيين وعائلات الضحايا والمجتمع المدني.
اذ يرى البعض ضرورة المحاسبة والتطهير، اما البعض الاخر فيدعو الى محاسبة وفق
المعايير الديمقراطية اي محاسبة غير انتقامية تكرّس المرور الى المصالحة دون عرقلة
عملية الانتقال الديمقراطي.
وبالرجوع لقانون العدالة الانتقالية فان المصالحة هي الرهان الأساسي لعملية
العدالة الانتقالية ولا يمكن ان تتم الا بعد استيفاء كامل المسار[54]. اذ لا بد من
الانطلاق من المحاسبة للوصول إلى المصالحة.
لكن يجب في الاثناء المرور عبر كشف الحقيقة لتنقية الذاكرة الوطنية وإعادة توثيقها
من جديد، ورد الاعتبار للضحايا.
في المقابل هنالك رأي يريد الذهاب مباشرة للمصالحة. ينبي هذا الرأي على ضرورة دفع عجلة الاقتصاد وينتقد
صلاحيات الهيئة.
فالإشكال يتجاوز إذن المحاسبة. فمن جهة هي
ليست بانتقام بل انصاف للضحايا. وهي
ضرورية لانها وسيلة كشف لحقيقة انتهاج السلطة وقياداتها الامنية والسياسية لمنهج العنف
والاستبداد.
والمحاسبة من هذا المنطلق يجب ان تشمل
كل من أمر وخطط ودبر ونفذ كل الممارسات غير الانسانية بحق الاف التونسيين ابتداءا من
رئيس الدولة وصولا الى ادنى السلم الاداري.
ويمكن اعتبار تحقيق المصالحة دليلا على نجاح مسار العدالة الانتقالية.
يمكن التأكيد في مستوى آخر أنه كان في مُكن التجربة التونسية الاستفادة بشكل
إيجابي من تجربة جنوب إفريقيا، وإلى حد ما تجربة المغرب، على الرغم من اختلاف السياقات
والمسارات.
انتقادات وعقبات
تعرضت هيئة الحقيقة والكرامة لانتقادات عديدة، لا سيما تلك التي صدرت مؤخرا
عن رئيس الحكومة يوسف الشاهد، عندما اعتبر أن “العدالة الانتقالية فشلت، بسبب
تأخر إرسائها بسنوات بعد الثورة (الشعبية التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن
علي، عام 2011)، كما أنه تم تسييسها، إضافة إلى أن الشخصية غير التوافقية لرئيسة الهيئة
(سهام بن سدرين) أزمت الأمور إلى حد ما”.
إنصاف وتسوية
في أواخر أكتوبر من سنة 2019، طرح رئيس “النهضة” راشد الغنوشي، مبادرة
دعا فيها إلى استكمال مسار العدالة الانتقالية، بالتركيز على إنصاف الضحايا، وتسوية
الملفات العالقة، بعيدا عن منطق التشفي والانتقام، تحقيقا للمصالحة الوطنية الشاملة.
وهو ما فهم حينها بأنه دعم لعفو عام عن من يعترفون بجرائمهم ويعتذرون عنها.
مهام أخرى
اليوم ثمة تساؤلات كثيرة بشأن مدى نجاح “هيئة الحقيقة والكرامة” في
أداء المهام التي أوكلت إليها منذ إحداثها وانتخاب أعضائها، عام 2013، والمتمثلة في
تنفيذ قانون العدالة الانتقالية بخصوص الانتهاكات لحقوق الإنسان في عهدي الحبيب بورقيبة
(1956 – 1987) وزين العابدين بن علي، وفترة ما بعد الثورة حتى نهاية ديسمبر 2013.
واعتبر عضو الهيئة عادل المعيزي، ، أنها “حققت المهام الموكلة لها، رغم
كل التعطيلات والصراعات التي واجهتها، واستكملت أشغالها بإصدار تقريرها الختامي .”
وتتمثل أهم التوصيات التي تضمنها التقرير في: إدخال إصلاحات لضمان عدم تكرار
الانتهاكات، وتعويض الضحايا، والمساءلة القضائية، ومن ثم المصالحة.
وتابع المعيزي أن “الهيئة بحثت في حالات الاختفاء القسري، التي لم يعرف
مصيرها، وأحالت النتائج إلى القضاء لمواصلة البحث”.
ورأى أن “مسار العدالة الانتقالية لا ينتهي بنهاية عمل الهيئة.. هناك نظر
في عمل المحاكم المتخصصة وصندوق الكرامة ورد الاعتبار لضحايا الاستبداد وتعويض الضحايا
وكل ما يتعلق بالسلطة التنفيذية، التي أسند إليها القانون فترة سنة من تاريخ صدور التقرير
الشامل لإعداد خطة وبرامج عمل لتطبيق توصيات الهيئة .”
الدوائر المتخصّصة تواصل المشوار
القضاء يعتبر حلقة
مهمّة من حلقات مسار العدالة الانتقالية من خلال كشف الحقيقة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات
وهي مسؤولية كبيرة على عاتق الدوائر القضائية المتخصّصة في العدالة الانتقالية والتي
تم إنشاؤها للغرض منذ سنوات وهي اليوم متعهّدة بعديد الملفات.
،في هذا السياق اعتبر
يوسف بوزاخر رئيس المجلس الأعلى للقضاء أن « مسار العدالة هو مسار دستوري التزمت به
الدولة طبقا لنص الدستور والمجلس الأعلى للقضاء تحمل مسؤوليته في تحيين تركيبة الدوائر
الجنائية المتخصصة في العدالة الانتقالية وتكوين أعضائها طبقا القانون.
المهمّة المستمرّة للمجتمع المدني
شهد مسار العدالة
الانتقالية تضييقات عديدة بعرقلة عمل هيئة الحقيقة والكرامة، واتجهت بوصلة التضييقات
للدوائر القضائية المتخصصة بعد إحالة 69 لائحة اتهام شملت 1120 ملفًا وُجهت فيها التهم
إلى 1426 منسوب اليه الانتهاك و136 قرار إحالة.
واجتهد الكثيرون
في التشويش على المسار عبر الايهام باقتصاره على التعويض المادي للحيلولة دون كشف الحقيقة
في مرحلة الأولى والمسائلة في مرحلة ثانية، إضافة لمحاولة الإيهام أن المصالحة الوطنية
لا يُشترط لتحقيقها إتمام المراحل السابقة من كشف حقيقة، وردّ الاعتبار المادي والمعنوي
للضحايا، وحفظ الذاكرة الوطنية لضمان عدم تكرار الاتهام عدا عن قطع الطريق مع ظاهرة
الإفلات من العقاب.
وتظلّ، في الأثناء،
مكوّنات المجتمع المدني التي واجهت الاستبداد هي رافعة لواء مسار العدالة الانتقالية،
وهي تعمل اليوم للدفع نحو طرح هذا الملف على طاولة الفاعلين السياسيين مستفيدة من النفس
الثوري المنبثق من نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
وجاء التقرير النهائي
لهيئة الحقيقة والكرامة ليختزل سنوات عملها في تفكيك منظومة الاستبداد والفساد، وجبر
الضرر، وحفظ الذاكرة، والمساءلة والمحاسبة، كما تضمن توصيات متعلقة بإصلاح المنظومة
الأمنية والقضائية والتشريعية والإدارية.
وكشف التقرير عن قبول 62 ألفا و720 ملفا لانتهاك حقوق
الإنسان، سواء تعلق الأمر بأفراد أو أحزاب وجمعيات ومنظمات وطنية ونقابية، فضلا عن
تنظيم أكثر من 49 ألف جلسة استماع سرية.
الصورة من المصدر : essada.net
مصدر المقال : essada.net