خبر مصر | أخر الأخبار / تونس .. عن وهن الدولة ومجتمع الفوارق
اصطلاحا، يحيل “مجتمع الفوارق” على نمط مجتمعي، تغيب فيه العدالة الاجتماعية وتتكرس اللامساواة بين أفراد المجتمع وفئاته في كل المجالات، لترتفع نسب الفقر والتمييز الجهوي ومؤشرات التهميش والفساد والبطالة، وانخرام منظومة الصحة والضمان الاجتماعي والمنظومة التربوية، وانحسار المشاركة الشعبية في رسم السياسات وبناء المستقبل.
ويربط علماء الاجتماع والاقتصاد ظاهرة مجتمع الفوارق بضعف الدولة ووهنها وتراجع دورها الاجتماعي. وفي تحليلهم هذه الظاهرة، يعزو هؤلاء ضعف الدولة إلى مساهمة العولمة وتأثيراتها والنظام الليبرالي الذي هيمن على السياسات الاقتصادية والاجتماعية منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث حشرت الدولة في دور الحد الأدنى الذي اقتصر على ضبط تنظيم اشتغال النظام الرأسمالي بدون تدخل مباشر في العملية الاقتصادية، وترك الدور الأساسي والأكبر للسوق، أو “اليد الخفية” حسب الاقتصادي الإنكليزي آدم سميث. وقد جوبه هذا التوجه بنقدٍ كثير، وصل إلى الرفض، إثر الأزمة الاقتصادية العالمية (2008/2009)، مشكّكا في قدرة السوق على إدارة الأزمة المالية العالمية التي سرعان ما دفعت الحكومات إلى الاستنجاد بالدولة من جديد، والعودة إلى السياسيات الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي الإنكليزي، جون كينز مينارد) التي تدافع عن تدخل الدولة، من أجل الحفاظ على التوازن الاقتصادي وتفادي الأزمات الاجتماعية. إلا أن هذا التغيير
في النظرة للدولة والعودة إلى مكانتها الاستراتيجية يراه بعضهم على غرار الاقتصادي التونسي، حكيم بن حمودة، صاحب كتاب “ديمقراطية اجتماعية أم ثورة محافظة؟ – تونس بعد انتخابات 2019″، سرعان ما تراجع، ولم يصمد أمام هيمنة الثورة المحافظة لبداية الثمانينيات التي ما زال تأثيرها قويا، في صياغة السياسات العامة في البلدان، وفي المؤسسات الدولية، ما ولَد نمطا للدولة يتسم بالضعف والوهن، ويقدم أنموذجا قاصرا للدولة التقليدية الراعية أمام مجمل التحدّيات الجديدة والتحولات الكبيرة التي يعيشها العالم اليوم. إنها دولة الحد الأدنى التي يقتصر دورها على حسن سير السوق وتعديل الفاعلين الاقتصاديين، من دون التدخل المباشر في الاقتصاد، وهي دولة لا تشبه الدولة الموروثة من النظرية الكينزية، ومن تجارب دولة الرفاه، إثر الحرب العالمية الثانية. في المحصلة، يبدو نمط الدولة اليوم غير قادر على التعاطي مع التحدّيات الكبرى التي تعيشها ما بعد الحداثة، ومنها القضايا الاجتماعية الحارقة، والتطور المخيف لمجتمع الفوارق، حيث تبدو المجتمعات ومؤسساتها عاجزةً عن صياغة البرامج والرؤى الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن تطبيقها، وهي غير قادرة على دعم التعاون والتضامن بين الفئات الاجتماعية. وفي تونس، لا أحد ينكر ما حققته دولة الاستقلال (1956) وخصوصا من 1961 إلى 2011، من نجاح اجتماعي تميز بنسب نمو لا تقل عن 5% سنويا، في مقابل 1.5% من سنة 2011 حتى 2015. وتبعا لذلك، نما الدخل الفردي خلال الفترة ذاتها بنسبة 3% سنويا، في حين كانت النسبة العالمية لا تتجاوز 2 % و 1.4% عربيا. وقد نتج عن ذلك اتساع أمل الحياة عند الإنسان التونسي من 47 سنة في أوائل الاستقلال إلى 75 سنة حاليا. كما نجحت مدرسة الاستقلال في أن تكون مصعدا اجتماعيا بامتياز، إذ مرّ عدد الأطباء من 200 طبيب سنة 1960 إلى 12000 طبيب حاليا. وبذلك تحسنت نسبة التغطية الصحية، فمرّت من حوالي طبيب واحد لكل مائة ألف ساكن إلى طبيب لكل 900 ساكن. كما شهدت مؤسسات التعليم قفزة نوعية فمن 15 مؤسسة سنة 1960 إلى أكثر من 1400 مؤسسة حاليا. وارتفع عدد الطلبة من حوالي 2000 طالب سنوات الاستقلال الأولى إلى 380 ألف طالب حاليا. ناهيك عن توفير الخدمات والمرافق العامة على غرار الكهرباء والماء الصالح للشرب لكل التونسيين، لتقارب النسبة العامة 100%. ولكن هذه الصورة المشرقة التي رسمتها دولة الاستقلال إلى سنة 2010 شهدت، بداية من 2011، صورة مغايرة اتسمت بالهشاشة الاجتماعية التي تسببت بتآكل الطبقة الوسطى، حسب الخبير الاجتماعي، لطفي الهذيلي الذي يقول إن “هذه الطبقة التي كانت تمثل نسبة أكثر من 80% من المجتمع التونسي في سنوات ما قبل الثورة، وكانت تنعم بحد أدنى من الرفاه، وتمثل مفخرة السياسات الاجتماعية للدولة التونسية، وهي صمام الأمان للمجتمع التونسي”، وارتفاع نسبة البطالة إلى 15.1% ونسبة الأمية إلى 18.1 % وانحسار النمو في 1% ناهيك عن تسرب مائة ألف منقطع عن التعليم سنويا. وقد أدّت هذه المؤشرات مجتمعة، مع ارتفاع مؤشرات الفساد، إلى نشوء مجتمع الفوارق التونسي. وفي مقاربة استشرافية للخروج من هذا الواقع، لا مناص من إعادة الاعتبار لمكانة الدولة وهيبتها التي تم تهميشها خلال السنوات التالية للثورة. مع ضرورة إعادة النظر في النظام السياسي
والاقتصادي والاجتماعي، ومنوال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومجمل البنى والقوانين والمؤسسات المنظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع في كل المجالات المؤسسة للفوارق واللامساواة، كالجباية والتعليم ومستوى الفساد والصحة والضمان الاجتماعي وحدود الملكية الخاصة والبرامج الاجتماعية، بما يوفر ظروفا موضوعيةً لتقييم عميق لمجتمع الفوارق وجذوره في تونس، ورصد الهياكل التي تكرّسه، والتي تعطل مسار محاصرة هذه الفوارق والقضاء عليها، وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية الديمقراطية ومجتمع المساواة. وهنا يجمع متابعون ومختصون على أن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس يجب ألا تقتصر على الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية فحسب، بل يجب أن تمتد إلى عمق الشأن الاجتماعي، لتلامس مجمل القضايا اليومية والمشاغل المعيشية للمواطن التونسي. في هذا السياق، تبرز أهمية قيام حوار وطني عميق حول سبل الخروج من هذا النمط الاجتماعي، على أن تتكرس نتائج هذا الحوار في صياغة السياسات والبرامج، بغرض القضاء على هذه الفوارق، والسير بالمجتمع التونسي إلى استعادة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تميزت بها العقود الماضية. وهو ما شكّل حيزا واسعا في مضامين الوثيقة المرجعية، لتشكيل الحكومة التي يتم التفاوض حولها حاليا. إذ يبدو أن الأحزاب والكتل والائتلافات البرلمانية على درجة كبيرة من الوعي بمعضلة الفوارق الاجتماعية وتمظهراتها، ما سيوفر فرصة تاريخية لرئيس الحكومة المكلف، إلياس الفخفاخ، لمرور حكومته، على الرغم من صعوبات كبرى تميز هذا المسار. ويبقى السؤال الكبير عن آليات تنفيذ برنامج اجتماعي ديمقراطي تقوده الدولة، في غياب الإمكانات والتمويلات الضرورية وارتفاع نسبة التداين والتحدّيات الجيوسياسية، وفي مقدمها الأزمة الليبية التي تلقي بظلالها على الواقع التونسي الهش.
بتاريخ: 2020-02-12
قراءه الخبر
من المصدر
الصورة من المصدر : www.khabarmasr.com
مصدر المقال : www.khabarmasr.com