من واجهات تونس الحضارية: بن عروس مدينة القرميد الأحمر
تونس-“القدس العربي”: قد تعرف بن عروس الواقعة في الضاحية الجنوبية لتونس كمدينة صناعية ومنطقة عبور من دون أن يقع الاهتمام بها كمدينة لها خصوصية حضارية تميزها، رغم أنها مركز الولاية. والحقيقة أنه لولا الشروع في حفريات لإنجاز المركب الثقافي الصيني بدعم وبفريق أشغال صيني، لما وقع التفطن لأقدمية هذه المدينة وعراقتها التاريخية في المنطقة الغابية التي تحد بن عروس غربا، إذ ما إن شرعت آلات ومعاول الحفر تشق التربة حتى وقع اكتشاف موقع أثري قديم.
الفترة الرومانية
وفي ما يخص هذا الموقع الأثري المكتشف حديثا في المنطقة، بين الأستاذ في معهد الآثار وجيه الفضلاوي لـ “القدس العربي” أنه حسب المعطيات الأولية للمعاينة الميدانية تبين أن الموقع يحتوي معلما أثريا يعود للفترة الرومانية، عثر به على نقيشة مهداة للإله ساتورن، كما نجد بعض التحف الأثرية من القرنين الأول والثاني إضافة إلى الفخار البوني “القرطاجي” الذي يعود للقرن الخامس قبل الميلاد، ومبدئيا يمكن الحديث عن تواصل الحضور البشري في المنطقة منذ الفترة البونية القرطاجية، إلى الفترة الرومانية، وتواصل الاعتقاد في الإله القرطاجي “بعل حمون” خلال الفترة الرومانية من خلال الإله ساتورن، والذي يؤكد لنا حضوره كون منطقة بن عروس اليوم كانت منطقة ريفية بامتياز في العهد القديم وهو ما يؤكده كذلك حضور بعض عناصر المعصرة الرومانية بالمكان. وأعرب محدثنا عن أمله في أن يتم استغلال وتوظيف المكون الأثري الجديد ضمن المشروع المزمع إنجازه ما يزيد من أهميته ويكون مكسبا ثقافيا لمدينة بن عروس.
أما الدكتور معز عاشور وهو من سكان المنطقة ومتحصل على الدكتوراه في الآثار والتاريخ القديم، فقد كان من أبرز المهتمين بالمدينة والمعالم والشواهد الحضارية لسكان بن عروس قبل الاستقلال. ويقول لـ “القدس العربي” إنها “بالنسبة للاستعمار الفرنسي تسمى FORCHILLE نسبة للجنرال الفرنسي FORCh ومنذ 1920تكونت فيها طبقة من العمال الفرنسيين والإيطاليين والامالط (نسبة إلى مالطا)”. ويبين محدثنا أن الطبقات القادمة من أوروبا، والتي استقرت في بن عروس تنتمي إلى الطبقات السحيقة لفلاحي أوروبا الفقراء وكان قدومهم إلى تونس الحل الأفضل لهم لانطلاقة حياة جديدة وللحد من البطالة والفقر.
ويتابع: “ومع قدوم هؤلاء للعمل في السكك الحديدية ومد الخط بين تونس وبير القصعة، تركزت طبقة من الشغالين الأوروبيين بالتوازي مع عمال تونسيين، إلا أنه من المفارقة أن يتحول الشغالون الأوروبيون إلى أعيان المدينة، باعتبار أنهم استقروا في فيلات بتصميم أوروبي في أحياء سكنية. ومارس هؤلاء حياتهم الدينية في الكنيسة الموجودة في شارع فرنسا التي تحولت حاليا إلى مقر للكشافة التونسية. وتوجد المقبرة المسيحية المنفتحة على الغابة أعلى الهضبة وفيها أضرحة تحمل اسم العائلات المدفونة فيها، ومن بينها عائلة الصيد. وتوجد مدرسة شارل نیكول ومدرسة التالف وهي من إنجازات الاستعمار الفرنسي للسكان. وفي آذار/مارس 1951 أصدر الباي “ملك تونس” أمرا بتأسيس مدينة بن عروس بأمر من الحماية الفرنسيةٖ، وبعد الاستقلال غادر المستوطنون الأوروبيون تونس وبقيت بعض العائلات في المدينة ومن بينهم مدام سكوزاري أقدم معمرة إيطالية والتي توفيت في قبل سنوات”.
مدينة التمازج الحضاري
من بين من رسخوا ثقافة النوادي الأدبية في بن عروس القاصة والناقدة هيام الفرشيشي التي أسست “بيت السرد” في دار الثقافة في 2016. وكلفتها مديرة المكتبة المغاربية في بن عروس بالإشراف على نادي “بيت الفكر والإبداع” في 2018. وقدمت هذه النوادي عشرات الأسماء المهمة من مختلف الأجيال والتجارب.
حول هذه المدينة تروي القاصة والناقدة هيام الفرشيشي لـ “القدس العربي” ذكرياتها قائلة إنھا نشأت في أحضانھا في أعلى الربوة في فيلا من الفيلات التي خصصها الصندوق القومي للضمان الاجتماعي لموظفيه آخر الستينيات مقابل اقتطاع أقساط من مرتباتھم على امتداد سنوات، ومن بين هؤلاء الموظفين والدها ووالد الدكتور معز عاشور. كما ذكرت أنها درست في مدرسة “شارل نيكول” الابتدائية. وتتابع، أن الحياة في المدينة تشعرها وكأنها عاشت في مدينة أوروبية أيام طفولتها في هذه البيوت القرميدية المحاطة بحدائق واسعة تزرع فيها القوارص بصفة خاصة. وتصاميم العمارة في رأيھا تدل على أن سكانھا الأوروبيين السابقين کانوا من الأعيان والفلاحين. بعض هذه البيوت مهجور إلى الآن والبعض الآخر، الذي اشتراه التونسيون بعد الاستقلال أو حصلوا عليه من طرف البلدية أو غيرها، بيع من طرف الورثة فتم هدمه وحلت محله عمارات ومبان ذات طوابق عالية. وتضيف: “وهناك ديار لم تتحول، بعضها مؤجر وبعضها هجر وبعضها تعيش فيه عائلات تونسية” وأضافت “لا أعتقد أن مدينة بن عروس صارت آهلة بالسكان منذ العشرينيات بل قبل ذلك، لأن مدرسة شارل نيكول التي درست فيها تأسست في 1910 وهي كبيرة بطابقين وساحتين، وكانت تستوعب عددا كبيرا من التلاميذ الأوروبيين والتونسيين. أما مدرسة التالف فقد بنيت بعد ذلك أي في العشرينيات من القرن الماضي وفيها تلاميذ تونسيون وهي متواضعة لا تتميز بتصاميم عمارة البذخ الفرنسية ويبدو أنها بنيت لأبناء العمال التونسيين”.
أثناء طفولتها كانت الفرشيشي شاهدة على تواجد عائلات أوروبية وخاصة من الإيطاليين، من بينهم أقدم معمرة إيطالية مدام سكوزاري، وقد توفيت منذ سنوات قليلة، وقالت “كانت تعيش أعلى النهج الذي أقطن فيه في دار كبيرة مسيجة بالأشجار، وكانت تربي الكلاب لحمايتها، فلا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، ولكن جزءا كبيرا من منزلها كان مكشوفا”. وتعقب: “كلما مررت من هناك كنت أتأمل شرفتها بافتتان، إذ تتوسطھا طاولة خشبية مصنوعة من جذع شجرة وحولها مقاعد خشبية زرقاء، وفي منزلها باب صغير يطل على الحديقة كأنه باب دهليز إلى جانب الأشجار المثمرة مثل شجرة التوت الكبيرة والفراولة البري. وهناك أشجار غابية شوكية. وكانت حريصة على تبادل التحايا مع الجميع باللغة الفرنسية، وإذا مررت قربها تتوقف وتتجاذب معك أطراف الحديث. استوقفتني إحدى المرات قائلة لي أن كلابها أضحت متوحشة لأن بعضهم من غير سكان بن عروس يقومون بضربها بالحجارة”.
وتقول إن سكوزاري عاشت آمنة وظلت حتى سن متقدمة تتنقل بمفردها وتقتني حاجياتها بالرغم أن أحد أفراد عائلتها وقد يكون ابنها، ظل يتردد عليها قبل عقد من وفاتها، ثم أجرّت المخزن الكبير الملاصق لمنزلها ربما للاستئناس واستعانت ببستاني إلى أن توفيت.
وتواصل: “حتى 1982 كانت بعض العائلات الفقيرة والنازحة من الأماكن الداخلية قد استقرت قرب مقبرة النصارى وساحة الكونكورد التي كانت فيها أسس وأعمدة عمودية لتثبيت الجدران وأفقية لتثبيت السقف، وقد استولى عليها النازحون وأقامت فيها الخرب العشوائية المتواضعة، إلى أن تدخلت حكومة محمد مزالي ومكنتهم من مساكن شعبية في أحياء بنيت خصيصا لهم قرب مدينة بن عروس منها حي الياسمينات”.
وتضيف محدثتنا: “تحيط ببن عروس أحياء شعبية أسفل الهضبة وهي حي الإسكان جنوبا، والمستوصف شمالا وحي الملعب وبن عرفة شرقا وحي البانكة في المدخل الغربي، إلا أن هذه الأحياء الشعبية توجد فيها بعض الديار القرميدية الكبيرة الواسعة ما يدل على أن أغلب الديار القرميدية لم تكن ملاصقة لبعضها وأن الأحياء الجديدة تشكلت من الحيز الفراغي خاصة مع تشكل المدينة الصناعية في بن عروس. حيث أخبرني والدي أنه في نھاية الستينيات وبداية السبعينيات کانت بن عروس أشبه بضيعة کبيرة فيھا مساکن قرميدية متفرقة ودور صغيرة، وکانت سكوزاري تملك مزرعة کبیرة من العنب باعتھا علی شكل أراضي. کما عرفتُ من السكان القدماء أن المدينة لم تفقد طابعھا حتی سبعينيات القرن الماضي حيث أحاطت بها أحياء شعبية تخص العمال خاصة مع وجود مصنع الأنابيب في المدخل الشمالي وقبله الشركة التونسية للصيانة، وديوان الحبوب في مدخل حي الياسمينات، ومعمل الدقيق في المدخل الجنوبي. ولا تخلو بن عروس من الفيلات التي يقطنها الموظفون، كما أن البلدية وزعت الكثير من الأراضي والمساكن على بعض السكان في السبعينيات.
فالدور بنيت بعيدة عن بعضها ثم احيطت بحدائق واسعة أغلبها كان مسيجا بالأشجار حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي. أما فيما يخص تهيئة ساحة كونكورد في التسعينيات من القرن الماضي قالت “في فترة التسعينيات قامت البلدية بإزالة الأعمدة للمنازل غير المكتملة التي تركها الاستعمار وبقيت هياكل خاوية في البطحاء، إذ استقرت فيها العائلات الفقيرة النازحة في الستينيات من القرن الماضي. وهدمت حكومة محمد مزالي بناياتهم العشوائية المتواضعة وبنت لهم المساكن الشعبية. وبني فيها المركب الرياضي والمكتبة العمومية الجهوية ببن عروس. ولم يكن من السهل إزالة أسس وجدران تلك المباني فقد ارتطمت بها آلة الهدم أكثر من مرة، فقد كانت صلبة جدا وهذا ما عاينته شخصيا. فتحولت صورة ساحة كونكورد إلى صورة حضارية جمالية”.
حياة ثقافية
ومن بین من کتبوا عن بن عروس في سبعينيات القرن الماضي الروائي الناصر التومي. وقد كتب عنها رواية “النزيف” الصادرة في 2003 وكانت شهادة على عصر الإضراب العام في 1978. إذ تحولت بن عروس في هذه الرواية إلى كتل من الدخان، وخربت مؤسساتها الصناعية ومجلسها البلدي “كانت مدينة صغيرة انتصب أعلاها على النمط الإفرنجي، امالط طليان، قريق، فرنسيس، كورس، وبعض العائلات الثرية، أما سفحها المتكون من بحيرات المياه فاستقرت به بعض الأحياء القصديرية ومقابر السيارات. تبدو المدينة منخفضة بين هضبتين، هضبة عليا يعيش فيها علية القوم وهضبة غابية يستقر فيها المهمشون الذين يعيشون في طرف المدينة الغابي. ويرجع أسباب هذا العنف الذي عرفته المدينة إلى التفاوت في توزيع الأراضي والمساكن التي وزعها المجلس البلدي على السكان واستئثار بعض أعضائه بنصيب منها.
في كتابه “أيام تونسية” تحدث الروائي اليمني مبارك سالمين عن المنطقة الصناعية في بن عروس التي تنام باكرا وتشهد يقظة أمنية: “أدركت أنني في ضاحية صناعية من ضواحي تونس ليس فيها سوى مباني وماكينات ومعامل سكتت للتو، ولم يبق في المنطقة سوى الحراس الليليين النشطاء، وأنا أتلفت يمينا ويسارا وإذا بأحدهم قادم إلى صارخا يا طفل اش عندك؟ تفضل! وكانت ملابسه تشبه ملابس أفراد العصابات في الأفلام الغربية التي كنت أشاهدها في سينما ريجل المتخصصة في عرض الأفلام الأجنبية في مدينة خورمكسر في عدن. أرعبني صوته، فمشيت في جهته والله نتمشى، رد علي قائلا: شنوا تتمشى هنا؟ قلت نعم. فأحس الرجل أنني لست من تونس، فغير سؤاله: أنت من تونس؟ فقلت له: لا من اليمن، فقال واش جابك لهنا؟ قلت: جئت لأتعلم”.
ثقافيا تخلو مدينة بن عروس من مهرجانات كبرى تميزها باستثناء المهرجان الصيفي الذي يغيب عنه كبار نجوم الفن والطرب ويتم الاكتفاء بالعروض الصغيرة والمدعمة، وتشهد المدينة في رمضان ليالي رمضان وتضم عروضا طربية وفرجوية مفتوحة للعموم. وقد دأبت المكتبة العمومية تحت إدارة فتحية شعبان على إقامة الندوات الخاصة برموز الأدب وشهر التراث و”الملتقى السنوي الطاهر الهمامي” و”بيت الفكر والإبداع” من إعداد وتقديم هيام الفرشيشي إضافة إلى تأطير رواد المكتبة من الأطفال والشباب في مجالات إبداعية متنوعة مع تعدد الورشات في الكتابة والتصوير واللغات والخط العربي والإلقاء. ومن النوادي يمكن ذكر نادي “كتابات وإبداعات الطفل” و”نادي الإنكليزية” و”نادي الفرنسية والمواطنة” ونادي “معا من أجل البيئة” و”نادي الخط العربي” ونادي “الرسم والإبداعات والثقافة الرقمية”. أما رواق الفنون فقد شهد أعمال ترميم وتهيئة بدعم من وزارة الثقافة ليكون لائقا لاحتضان معارض دولية ووطنية وجهوية. ويعد رواق الفنون ببن عروس مع رواق علي القرماسي والمتحف الوطني في مدينة الثقافة من الفضاءات العمومية الخاصة بالفن التشكيلي على مستوى وطني وانعكس إشعاع الرواق مؤخرا في احتضانه السنوي للمعرض الدولي للفنون التشكيلية والمعرض الدولي المتجول وتنظيم المعرض الدولي التشكيلي والمعرض الجزائري والبريطاني والتونسي وشهر الصورة الفوتوغرافية لاتحاد المصورين العرب فرع تونس تحت إشراف عبادة حرز الله .
الصورة من المصدر : www.alquds.co.uk
مصدر المقال : www.alquds.co.uk