نحو رسم إستراتيجية وطنية واضحة المعالم لتفعيل الاتفاقية الإطارية لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية
1. ما هي الاتفاقية الإطارية لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية؟ الحدث يفرض نفسه مع حلول سنة 2021 و هو دخول منطقة التجارة الحرّة بالقارة الإفريقية حيز النفاذ، لكن تفعيل هذه المنطقة على أرض الواقع سيكون بحاجة إلى سنوات عديدة لتصبح فعليا أكبر منطقة تبادل حر في العالم. ففي بداية هذه السنة 2021، بدأت الدول الأفريقية رسميا معاملاتها التجارية في إطار منطقة تجارة حرة جديدة تمتد على مستوى القارة بعد 6 أشهر من الإرجاء بسبب جائحة فيروس كورونا إذ كان من المفترض إطلاق التجارة بموجب منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية في 1 جويلية 2020 لكن جرى تأجيله بعد أن تسبب وباء كوفيد-19 في استحالة إجراء مفاوضات مباشرة. وتهدف منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية إلى جمع 1.3 مليار شخص في تكتل اقتصادي حجمه 3.4 تريليون دولار سيكون أكبر منطقة للتجارة الحرة منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية. وتعتبر منطقة التجارة الحرة للقارة الإفريقية (ZLECAf- AfCFTA ) الإطار القانوني لمنطقة تجارة حرة بين 54 من دول الاتحاد الإفريقي البالغ عددها 55 دولة (لا تزال إريتريا هي الدولة الوحيدة غير الموقعة على هذه الاتفاقية). وتعد هذه المنطقة التجارية الحرة هي الأكبر في العالم من حيث عدد الدول المشاركة. و هي تهدف بالأساس إلى تأسيس سوق مشتركة موحدة للبضائع و الخدمات في إفريقيا و تسهيل تنقل الأشخاص و البضائع بين الدول الإفريقية و كذلك تسريع إحداث وحدة جمركية بين دول القارة في حدود سنة 2022 و بعث وحدة اقتصادية إفريقية في حدود سنة 2028. و تأتي هذه المساعي في إطار الدفع بتحقيق أهداف و طموحات أجندة 2063 التي تعمل على بناء إفريقيا موحدة مزدهرة وسلمية، مدفوعة بمواطنيها لتمثل قوة مؤثرة على صعيد الساحة الدولية. ويطمح الأفارقة عبر منطقة التبادل الحر الإفريقية إلى رفع معدل التجارة البينية الإفريقية (الذي يبلغ 15 بالمائة وهو ما يعادل 2 بالمائة من التجارة العالمية، ويعد أدنى معدل اندماج بالمقارنة مع المناطق الاقتصادية الأخرى في العالم) و التي انتهت المرحلة الأولى من المفاوضات المتعلقة بها بصياغة الاتفاق التي يؤسس لها والبروتوكولات الثلاثة المتعلقة بالتجارة في السلع والتجارة في الخدمات وقواعد وإجراءات تسوية المنازعات، لتنطلق المرحلة العملياتية رسميا في جويلية 2020، بعد مصادقة 22 دولة إفريقية عليها. وتسمح المرحلة الأولى بتفكيك 90 بالمائة من البنود التعريفية الرئيسية، أي المنتجات، ابتداء من جويلية 2020 ولمدة 5 سنوات للبلدان الأكثر نموا و10 سنوات للبلدان الأقل نموا. فيما عرفت المرحلة الثانية من المفاوضات دراسة مسائل تتعلق بالاستثمار وحقوق الملكية الفكرية والمنافسة. و قد تم توقيع الاتفاقية من طرف 44 دولة (من بينها تونس) من أصل 55 دولة عضو في كيغالي (رواندا) في 21 مارس 2018 و إلى حد الساعة قامت 34 دولة بالتصديق على هذه المعاهدة (بما في ذلك تونس). و تتطلب الاتفاقية مبدئيًا من الأعضاء إزالة التعريفات من 90٪ من السلع، مما يتيح حرية الوصول إلى السلع والخدمات عبر القارة. تجدر الإشارة إلى أن الدولة التونسية قد أمضت على الاتفاقية المذكورة في 21 مارس 2018 بكيغالي و صادقت عليها تكريسا لتوجه تونس نحو تكثيف التعاون الاقتصادي مع الدول الإفريقية الذي تدعم بانضمام بلادنا لمنطقة الكوميسا COMESA وحصولها على صفة المراقب بالمجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا السيدياو CEDEAO. و جاءت مصادقة مجلس نواب الشعب على هذه المعاهدة تحديدا في 22 جويلية 2020 بعد تعثر و تردد مخز في مارس 2020 كاد أن يحبط كل جهود الدولة التونسية في سعيها إلى الاندماج الاقتصادي على المستوى القاري. 2. ماذا ستجني تونس من تفعيل هذه الاتفاقية؟ تعد منطقة التجارة الحرة الإفريقية الأكبر في العالم حيث تضم 1.2 مليار شخصا بحجم مبادلات تتجاوز 3000 مليار دولار. كما ستمكن من رفع نسبة المبادلات التجارية بين الدول الإفريقية من 16% إلى 33%. وقد انطلقت قمّة نيامي في 04 جويلية 2019 بمصادقة المجلس التنفيذي للاتحاد الإفريقي على هيكلة المعهد الإفريقي للإحصاء الذي أمضت بلادنا اتفاقية احتضانها لمقره في جانفي 2018. إن الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية الخانقة التي تمر بها بلادنا منذ سنوات أثقلت كاهل الدولة و المؤسسات العامة و الخاصة و تمخضت عنها تبعات سلبية على مستوى الميزان الاقتصادي و المبادلات التجارية و السوق المالية و جعلت من المسثمرين الأجانب و المحليين يتراجعون عن الاستثمار في بلادنا. و لعل أهمية تفعيل هذه الاتفاقية في أسرع وقت ممكن من شأنه أن يكون البديل و الحل الاقتصادي الأمثل لضخ انتعاشة في السوق التونسية و تحريك مسار عجلة الإنتاج و الإنتاجية نحو آفاق أوسع و دوائر أرحب هي دوائر الاقتصادي البيني و القاري في إفريقيا. فبعد تفعيل هذه الاتفاقية بصورة تدريجية سيكون لشباب تونس المبدع و الخلاق فرص شغل كثيرة و فرص تصدير المنتج التونسي و كذلك قطاع الخدمات إلى وجهات عديدة غير تقليدية في القارة الإفريقية و هو ما سيعجل النمو الاقتصادي و يقفز بحجم المبادلات التجارية إلى أرقام غير مسبوقة لو أحسن أصحاب القرار في بلادنا التعامل مع هذه الملفات بكل جرأة و كل حرفية و لو كانت هناك إرادة سياسية حقيقية في دفع عجلة التنمية ببلادنا و إيجاد حلول جذرية و ممكنة التحقيق للحد من مشاكل البطالة و التهميش و الفقر التي مازالت تجثو على صدورنا منذ سنوات عديدة. و لعل في ذلك تعزيز لمكانة تونس استراتيجيا قاريا و إقليميا بعدما فقدت بلادنا بريقها في المحافل الدولية و تراجع دورها في أخذ القرار و الريادة و المشاركة في رسم سياسات الاتحاد الإفريقي و هي التي كانت من الدول المؤسسة لمنظمة الوحدة الإفريقية منذ 1963 و بعد أن شارك رئيسها السابق الحبيب بورقيبة في التحصل على استقلال العديد من بلدانها و بعد أن عملت سواعد و عقول تونسية على تكوين العديد من كوادرها في مجالات الصحة و التعليم و الاتصال و الهندسة و قطاع الخدمات بأنواعها. زد على ذلك حتمية تمتع بلادنا من كل الامتيازات و مشاريع تقوية الاندماج الاقتصادي بالقارة الإفريقية و ضخ رؤوس الأموال التي سترصد لتعزيز هذا الاندماج. و ستتمتع بلادنا أيضا بقيمة مضافة هامة في مجال الخبرات و تبادل التجارب المقارنة و هو ما سيشجع الاستثمار ويوسع الأسواق و يخلق الثروة سريعا. 3. ما هي أهم التحديات المستقبلية؟ برنامج تنفيذ هذه الاتفاقية يطرح في حد ذاته إشكاليات و تحديات لا يمكن تجاهلها و من أهم التحديات المطروحة، غياب الاستقرار السياسي والفساد الاقتصادي والإداري والبيروقراطية المفرطة في الإدارة التونسية و كذلك في معظم الدول الإفريقية. كما أنه لم يتم بعد استكمال ملحق للاتفاق يحدد قواعد المنشأ، وهي خطوة أساسية لتحديد المنتجات التي يمكن أن تخضع للرسوم والجمارك. و لا يفوتنا القول بأن هذه الاتفاقية تواجه أصلا رفضا من مجموعات المصالح المحلية و الدولية بالدول الإفريقية، في ظل المخاوف من تكبد خسائر اقتصادية أمام دول مجاورة أكثر تنافسية. فليس من مصلحة الدول ذات الاقتصاديات العملاقة و النافذة في الدول الإفريقية مثل الصين و الهند و الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا و العديد من دول الإتحاد الأوروبي و على رأسها فرنسا أن تعطي لهذه القارة الفتية فرصة أن تصبح من أقوى الاقتصاديات في العالم و أن يجني الربح الأوفر رجال أعمال و شركات إفريقية خالصة. و يجزم العديد من الملاحظين بأن الدول الافريقية ليست جاهزة بعد و لا مستعدة لتطبيق اتفاقية منطقة التجارة الحرة بسبب ضعف البنى التحتية وعدم وجود مواصلات و سكك حديد و معابر جوية و خطوط مباشرة بين العواصم الإفريقية و عدم وجود نية حقيقية لتجاوز الحدود و إلغاء التأشيرة و إصدار جواز سفر إفريقي للمواطن الإفريقي و إصدار عملة إفريقية و تفعيل المؤسسات المالية التابعة للاتحاد الإفريقي (كالبنك المركزي الإفريقي و البنك الإفريقي للاستثمار و صندوق النقد الإفريقي) و ذلك في ظل مناخ أمني متراخي و تهديدات أمنية و إرهابية تثير العديد من المخاوف و الشكوك في إمكانية استكمال بناء الوحدة الإفريقية و الاندماج الاقتصادي و السياسي. أما على الصعيد الوطني فتعتبر السياسات الاقتصادية في تونس عقيمة و غير تنافسية لاقتصارها منذ عقود على نفس الحلفاء الاستراتيجيين من دول غربية و دول حوض البحر الأبيض المتوسط و دول عربية و مشرقية و تجاهلها تماما للعلاقات جنوب-جنوب. و لعل الأحداث السياسية و الجيوستراتيجية الأخيرة في ليبيا قد ألقت بضلالها حتى على علاقاتنا بليبيا و السوق الليبية والتي بدأت معاملاتنا معها تتراجع بسبب تغول دول أخرى أتقنت دورها في اللعبة السياسية و أحسنت اصطياد فرص المال و الأعمال مقابل تراجع الدور الاقتصادي و الاستراتيجي لتونس و في ذلك خسارة كبيرة لقطاعات عديدة كانت تعتمد بشكل أساسي على السوق الليبية. كذلك لا ننسى تداعيات كوفيد 19 على الاقتصاد التونسي مما ينذر بأزمة اجتماعية خانقة في ظل فقدان العديد من التونسيين لمصدر رزقهم مقابل تراخي أو استهانة الدولة بمتطلبات الشعب و عجزها على تلبية المطالب الاقتصادية و الاجتماعية التي تراكمت منذ سنين لتصبح حجر عثرة أمام التنمية و النمو و الازدهار و أضحى اليأس و الإحباط و القنوط رياضة جماعية في بلادنا. طبعا لا نتخيل حلولا سحرية و لا نجزم بأن الأوضاع ستتحسن سريعا و لكن من بين الحلول الواقعية و ممكنة التحقيق هو الانخراط الجدي في منطقة التبادل الحر القارية. فالمطلوب من الدولة التونسية اليوم هو التحرك سريعا و قنص الفرص و خلق الثروات و تنويع الأسواق لتوزيع منتوج تونسي ذي جودة تنافسية عالية و قطاع خدمات في الصحة و التعليم و السياحة و تكنولوجيا الاتصال (ألخ.) مشهود له بالكفاءة و الامتياز. 4. أهم التوصيات لرسم سياسية إستراتيجية واضحة و فعالة لتنفيذ هذه الاتفاقية؟ يجدر القول أولا بأن انجاز الاندماج القاري المنشود من خلال منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية يرتكز على عدد من الشروط المسبقة وخاصة الضرورة الملحة لتحقيق الاندماج الإقليمي على مستوى المجموعات الاقتصادية الإقليمية القائمة. فنجاح إحداث منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية يرتكز بالأساس على التقدم المحرز على مستوى المجموعات الاقتصادية الإقليمية، لذلك ينص الاتفاق المتعلق بإحداث المنطقة القارية بلغة صريحة على أن منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية ستستفيد من الانجازات المحققة على مستوى المجموعات الاقتصادية الإقليمية. و في هذا الإطار يتعين التذكير بأن مسارات نجاح المجموعات الاقتصادية الإقليمية في القارة الإفريقية مختلفة و نسق اندماجها يختلف من إقليم لآخر و لعل أضعفها على الإطلاق هو اتحاد المغرب العربي. ويمكن القول بأن أهم نموذج ناجح للاندماج الاقتصادي هو نموذج الاتحاد الأوروبي فمن الممكن الاستئناس بالتجربة الأوروبية و الاستفادة من عوامل و أسرار نجاحها مع طرح المشاكل و الحلول الإفريقية و التركيز عليها. أما على صعيد وطني فنرى أنه من الضروري دعم جهود الدولة في تنفيذ التزاماتها الناتجة عن توقيع هذه الاتفاقية و التصديق عليها. و في هذا الإطار يجب على الدولة التونسية التسريع في وضع إستراتيجية وطنية واضحة المعالم لتنفيذ اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية والعمل على مواءمة القوانين الوطنية مع متطلباتها، بهدف خلق سوق إفريقية موحدة وبرنامج أكثر طموحا في القارة وهو ما سيسمح برفع القيود الجمركية على مختلف السلع ويمكن من تعزيز التجارة البينية التي تعد حاليا الأدنى في العالم. ولتجسيد التزامها بتنفيذ الاتفاقية، على تونس أن تسارع بتنظيم الندوة الوطنية حول رهانات منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية، وذلك في إطار السعي إلى شرح أهمية هذه المنطقة على اقتصاديات القارة، وفقا لمتطلبات الاتفاقية، و كذلك تعزيز الندوات للحديث عن أهداف وأهمية منطقة التبادل التجاري الحر بالنسبة لشعوب القارة. و على تونس أن تواصل دعمها لمسار التعاون الرامية إلى تسريع التكامل الإقليمي بالاشتراك مع مؤسسات الاتحاد الإفريقي و بالتعاون مع الخبراء القانونيين و الاقتصاديين في هذا المجال. كذلك نوصي الدولة التونسية بوضع شبكة دبلوماسية تقوم بمرافقة الديناميكية التجارية والصناعية، لاسيما بغرض تعزيز الصادرات وتوفير المعلومات حول الأسواق الخارجية وتنظيم مجالس رجال الأعمال والمنتديات الاقتصادية داخل وخارج تونس وتنظيم البعثات الاقتصادية نحو الخارج. و في هذا الصدد المطلوب من رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة التحرك بكثافة و زيارة الدول الإفريقية الشقيقة و الصديقة مصحوبين برجال الأعمال و الحرفيين و الشباب التواق لترويج أفكاره. و لعل تعزيز هيكلة وزارة الخارجية ووزارة الاقتصاد ببعث إدارة خاصة بتفعيل و تنفيذ اتفاقية التبادل الحر القارية من شأنه أن يكون حلا من الحلول الرامية لتسهيل الحوار و التشاور و التناغم بين كافة الوزارات المعنية بهذه الاتفاقية قصد دعم الجهود و توفير الوقت للوصول إلى أحسن النتائج بأقل التكاليف. ما من شك في أن هذه الاتفاقية ستمنح فرصا كبيرة للأطراف الفاعلة في الاقتصاد التونسي على مدى قصير و طويل خاصة في ظل التزام قوي من طرف الاتحاد الإفريقي بخلق سوق حرة إفريقية كبرى والسماح بحرية تنقل السلع والأشخاص. لكن إفريقيا اليوم مازالت مجرد “مخزن للمواد الأولية للقارات الأخرى” وهي” القارة الأقل تصنيعا في العالم”. و بالتالي فإن إنجاح مشروع منطقة التبادل الحر الإفريقية يتطلب توفر عدة عوامل، أهمها إقحام القطاع الخاص والمجتمع المدني والجامعات في هذا المشروع، و تعزيز دور اللجنة الوطنية لتحضير الإستراتيجية الوطنية لتنفيذها وعدم تأخير انطلاق المرحلة الثانية من المفاوضات وتسهيل تنقل رجال الأعمال و القطع مع البيروقراطية لكي نكون في مصاف الدول الإفريقية التي تتقدم أشواطا كبيرة و سريعة في مجال تفعيل هذه الاتفاقية و على تونس أن تكون في الصفوف الأمامية لدفع عجلة اقتصاد أنهكته عشر سنوات عجاف. مستقبلنا هو إفريقيا. مستقبلنا يكون في تفعيل منطقة التبادل الحر الإفريقية. لذلك نشدد على ضرورة تحضير إستراتيجية وطنية على مستوى عال من الدقة و الحرفية لتطبيق هذه الاتفاقية في أحسن الظروف و أقرب الآجال. فلا خيار لنا و لمستقبل أجيالنا إلا التموقع الاقتصادي بذكاء و جرأة و فاعلية في كامل أرجاء القارة الإفريقية. هاجر قلديشأستاذ مبرز للتعليم العالي بكلية العلوم القانونية و السياسية و الاجتماعية بتونس
المصدر