أزمة قطاع الصحة في تونس: نزيف هجرة الأطباء يتواصل ومطالب بإصلاحات عاجلة

منذ 5 ساعات

حجم الخط

تونس-»القدس العربي»: راهنت دولة الاستقلال في تونس ومنذ منتصف الخمسينيات على قطاعي التعليم والصحة وأنفقت من أجلهما الغالي والنفيس حتى صارت مرجعا في العالم العربي وأفريقيا في هذا المجال وحظيت باحترام وتقدير الداخل والخارج. وكانت المراهنة بالأساس على القطاع العام وليس القطاع الخاص، وبنيت المستشفيات في المدن والمستوصفات في القرى والأرياف، وتم تحسين وصيانة ما بني خلال فترتي الحكم الملكي والاستعمار.كما تمّ الاعتناء بالتعليم العالي من خلال تشييد كليات الطب وطب الأسنان والصيدلة والمهن الصحية، فتخرجت من هذه الكليات التونسية كفاءات ذاع صيتها في محيطها الإقليمي وفي البلدان الأوروبية. وتحولت الخضراء إلى قطب طبي إقليمي يرتادها أشقاؤها المغاربيون للتداوي والاستشفاء بالنظر إلى الثقة في الإطارات الطبية وشبه الطبية التونسية خاصة وأن الملتحقين بهذه الصروح الجامعية الوطنية هم المتفوقون دراسيا في المرحلة الثانوية، فيما يلتحق الأقل تفوقا بالكليات الأجنبية للدراسة خارج الديار بما أن الأماكن في اختصاص الطب في تونس محدودة وهي حكر على المتفوقين دون سواهم.لكن القطاع الصحي العمومي التونسي شهد شبه انتكاسة خلال فترة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي الذي وجه الاهتمام أكثر إلى القطاع الخاص رغم تشييد مستشفيات عمومية ومراكز صحية هامة في زمن حكمه على غرار مستشفى الحروق البليغة. ودفع هذا التوجه بأبناء الطبقة الوسطى في البلاد إلى تفضيل المصحات الخاصة للتداوي على المستشفيات العمومية التي طالها التهميش والإهمال وبقيت بوجه عام حكرا على الطبقات المهمشة والفقيرة.لكن بعض المستشفيات العمومية حافظت على مستواها المرموق رغم كل شيء مثل المستشفى العسكري ومستشفى قوات الأمن الداخلي والحبيب ثامر في العاصمة وبعض المستشفيات المختصة على غرار معهد الهادي الرايس لأمراض العيون وبعض المستشفيات الجهوية مثل مستشفى سهلول بسوسة وغيرها. كما حافظت المستشفيات العمومية الجامعية على كفاءاتها الطبية حيث يعمل فيها كبار الأطباء المختصين في البلاد والأساتذة الجامعيين باعتبار الارتباط بين هذه المستشفيات والتكوين في كليات الطب.
فوضى عارمة
بعد الثورة دخلت البلاد في حالة من الفوضى لم تنته إلى اليوم أثرّت سلبا على قطاع الصحة العمومية وتسببت ليس فقط في خراب البنى التحتية من مستشفيات ومعاهد صحية مختصة ومستوصفات ومخابر وغيرها، بل في معاناة الأطباء من ظروف العمل المزرية. فقد أصبح الجيش الأبيض يعمل في مستشفيات عمومية لم يقع تعهدها بالصيانة فتآكلت جدرانها وأبوابها ومصاعدها، وباتت دون تجهيزات طبية عصرية مواكبة للثورات العلمية في العالم بعد أن توقفت عملية التطوير للمنجز القديم من دون أن يتم إنجاز البديل طيلة العشرية الماضية.ولم يعد الأطباء في مأمن أثناء تأديتهم لمهامهم وبات الاعتداء عليهم بالعنف المادي واللفظي واهانة كرامتهم من المرضى وعائلاتهم خبزا يوميا في المستشفيات العمومية وأقسام الطب الاستعجالي على وجه الخصوص. وطالب الأطباء في هذا الإطار بالحماية الأمنية، لكن لا حياة لمن تنادي، حتى ضاقوا ذرعا وباتوا يفكرون جديا إما في التحول إلى القطاع الخاص حيث المصحات والعيادات المتطورة والرواتب المغرية، أو في الهجرة إلى الخارج خاصة وأن العروض التي تأتيهم من البلدان الأوروبية مغرية ماديا ومشجعة من حيث ظروف العمل.فالطبيب التونسي يحظى بسمعة طيبة في محيطه الإقليمي وفي القارة العجوز وحتى في شمال القارة الأمريكية وهو ما يجعل الإغراءات أمامه كبيرة لمغادرة وطنه والاستقرار خارج الديار في ظروف أفضل وبراتب محترم يليق بشهائده العلمية. وبالفعل فقد أصبحت كليات الطب التونسية والمستشفيات العمومية الجامعية تكوَن أطباء تنفق عليهم الدولة من المال العام لتستفيد منهم بلدان أوروبا بعد أن تحولت هذه الهجرة إلى ظاهرة تثير القلق في تونس خوفا من قادم السنوات خاصة وأن أوروبا ترفض الهجرة السرية العادية للفقراء التونسيين وتفتح ذراعيها بالمقابل للأطباء والمهندسين وخيرة كفاءات الجامعات التونسية في مختلف الاختصاصات.وتشير الأرقام الرسمية المتعلقة بسنوات ما بعد الثورة إلى أن قرابة الـ 45 في المئة من الأطباء التونسيين المرسمين كل سنة في نقابة الأطباء يهاجرون للعمل في بلدان أخرى. ويغادر هؤلاء إلى خارج الديار لثلاث سنوات من أجل مزيد التكوين لكنهم باتوا لا يعودون إلى تونس خصوصا في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت الأوضاع مزرية وتشجع على الرحيل إلى وجهات متعددة عبر العالم.وتعتبر ألمانيا التي تدرك جودة تكوين كليات الطب في تونس أكثر الدول الأوروبية استقطابا للأطباء التونسيين تليها فرنسا وبلدان الخليج. ففي السنة الماضية على سبيل المثال نجح كل الأطباء التونسيون الذين اجتازوا مناظرة معادلة شهائدهم مع الشهائد الفرنسية. والتحق هؤلاء بمقرات عملهم الجديدة في بلد فولتير تاركين الخضراء التي أنفقت عليهم الكثير من مال المجموعة الوطنية ليصلوا إلى ما وصلوا إليه.ويؤكد في هذا الإطار محمد البرهومي الأخصائي التونسي في جراحة الفم والأسنان في حديثه لـ»لقدس العربي» أن ما يحصل من هجرة للأطباء التونسيين مؤسف وأسبابه معلومة، لكن الأكثر أسفا، بحسب محدثنا، هو أن جل العارفين بطبيعة النظام الصحي التونسي يؤكدون على أن هجرة الأطباء التونسيين ستتزايد هذا العام. ويضيف محدثنا قائلا: «إن السبب الرئيسي في ازدياد الهجرة هذا العام هو تفاقم الأوضاع السيئة والتي ازدادت سوءا مع عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة في العشرية الأخيرة بالقطاع الصحي، كما أن حادثة سقوط طبيب شاب في مصعد بالمستشفى الجهوي بجندوبة في الشمال الغربي للبلاد التونسية مع نهاية العام، وذلك بسبب التلكؤ في إصلاح هذا المصعد، والتي أدت إلى وفاة الطبيب ولوعة أهله عليه وإلى نقمة زملائه الأطباء على الأوضاع المزرية، سيشجع الأطباء الشبان على مغادرة البلاد خاصة وأن عروض الهجرة متوفرة سواء باتجاه أوروبا أو أمريكا الشمالية أو بلدان الخليج».
تهميش وهجرة جماعية
من جهته يقول الدكتور المتخصص في الأمراض الجلدية والأستاذ الجامعي طلال البادري لـ «القدس العربي» إن قطاع الصحة في تونس بات مهمشا الآن، بعد ان كان في فترة ما بعد الاستقلال قطاعا استراتيجيا من حيث الاهتمام والميزانية والدعم. ويضيف بالقول: «لكن الدولة بدأت تتخلى عن واجباتها تجاه قطاع الصحة سواء من حيث الميزانية التي لا تتجاوز الآن 5.5 في المئة في حين انه حسب المعايير الدولية يجب ان تكون الميزانية ضعف هذا الرقم تقريبا. كذلك هذا الإهمال يترجم على أرض الواقع بمشاكل مادية ومشاكل في التجهيزات والبنية التحية وعدم اهتمام كذلك بتجديد الرأسمال البشري. فالطبيب الذي يُحال على التقاعد لا يتم تعويضه، وهذا يزيد من الحمل على كاهل العاملين في قطاع الصحة». ويردف بالقول: «ظروف العمل أصبحت صعبة مع تدهور الإمكانيات وتراجع البنية التحتية والتي لا يتم تجديدها أو إصلاحها وحتى المصاعد الكهربائية بعضها لا يشتغل في المستشفيات، وهذا ما نتج عنه الحادث المأساوي الذي تعرض له الطبيب المقيم بدر الدين العلوي. يعني هناك اهتراء كبير في البنية التحية سواء فيما يتعلق بالعامل المادي أو التجهيزات خاصة الإصلاح والصيانة والميزانية وكلها عوامل أدت إلى ان قطاع الصحة أصبح مهمشا من جميع النواحي». ويتابع محدثنا: «وكذلك هناك سبب رئيسي همشّ قطاع الصحة العمومية هو صندوق التأمين على المرض والذي يخصص النسبة الأكبر لعائداته للقطاع الخاص، وهذا خلق خللا كبيرا خاصة من الناحية المادية وأصبحت عديد المستشفيات العمومية تئن وعلى حافة الإفلاس لأنها لا تسترجع المصاريف التي تصرفها على علاج مرضاها بما ان صندوق التأمين على المرض لا يوفر لها الميزانية الخاصة. لذلك يعني هناك عجز ومشاكل في الحوكمة في القطاع الحكومي بصفة عامة».ويعتبر البادري أن مشاكل التمويل والحوكمة جعلت القطاع الصحي العمومي في تونس مهمشا وهذا يعود بالسلب على المواطنين، بما ان 80 في المئة من المواطنين خاصة الفئات الهشة منهم يعالجون في قطاع الصحة العمومية في ظروف علاج سيئة. والمفارقة ان الأشخاص الذين يعملون في قطاع الصحة العمومية هم أطباء أساتذة استشفائيون جامعيون ومن خيرة ما يوجد من الكفاءات الطبية لأنهم من ذوي خبرة ولهم تكوين عميق ودقيق، ولكن عملهم في ظروف سيئة من الناحية المادية وفي جو أقرب للعنف في المستشفيات، كل ذلك يجعل هؤلاء الأطباء وأعوان الصحة وكذلك الأطباء الشبان لا يجدون راحتهم في المستشفيات العمومية وحتى في المستشفيات الجامعية وهذا يؤثر على نوعية الخدمات التي تسدى للمرضى».
الهجرة إلى القطاع الخاص
كل هذه الأسباب أدت إلى تصاعد نزيف هجرة الأطباء في تونس سواء إلى القطاع الخاص أو إلى الخارج. وهذا بحسب البادري، يؤثر حتى على جودة التعليم الأكاديمي الصحي. فتعليم الطب في تونس هو عمومي وكذلك كليات الطب عمومية والمستشفيات التي يتم تكوين الطالب فيها في أغلبها عمومية. لذلك فان نقص الكفاءات الطبية والتأطير الجيد سيؤدي بالضرورة إلى تكوين طبي متدهور وربما يصبح مهددا بالاندثار. ويشير محدثنا إلى ان هناك دراسة جديدة تمت مناقشتها منذ أسبوعين تعتمد على استطلاع للآراء لدى الأطباء الشبان وتكشف بان 70 في المئة ممن تم أخذ آرائهم أعلنوا عن نيتهم وشروعهم للهجرة إلى الخارج. هناك العديد من الأطباء الشبان وحتى أطباء كهول يدرسون اللغات الأجنبية خاصة الألمانية للهجرة إلى ألمانيا. كما ان الكثير من الأطباء الجامعيين يهاجرون إلى الخليج لأن ظروف العمل والمعيشة أفضل .فالظروف المادية تدفع إلى الهجرة ويساهم ذلك في مزيد تدهور قطاع الصحة العمومية في تونس. وقد كشف رئيس عمادة الأطباء في تونس مؤخرا بأن الأطباء الجدد الذين تمّ تسجيلهم في تونس خلال هذا العام أقل من السنوات الماضية لان أغلب الأطباء يهاجرون. وهذه الأرقام تؤشر إلى ان تونس ستكون مقبلة على تهرّم في منظومتها الطبية والصحية.أما عن الحلول ومقاربات الإصلاح، فيؤكد البادري بأن نقابة الأطباء وعديد منظمات المجتمع المدني قدمت مؤخرا مبادرة لرئيس الحكومة وطرحت خلالها إنشاء هيئة لإنقاذ قطاع الصحة العمومية في تونس تكون لديها صلاحيات واسعة في غصلاح قطاع الصحة سواء التشريعات أو ظروف العمل أو إصلاح الجانب التشريعي والاستراتيجي على المدى القريب والمتوسط. ويضيف: «نحن كاستشفائيين جامعيين قمنا بإمضاء اتفاق مع الحكومة منذ ثلاثة أشهر ينصّ على تحسين الظروف الجامعية. وطالبنا بتنقيح القانون الأساسي للاستشفائيين الجامعيين الذي مرّ عليه 12 سنة ويحتاج إلى تحسين. ولكن حتى الآن لم يتم تفعيل هذا الاتفاق وهذا يدعم الفكرة التي تؤكد بأن الحكومة ليس من أولوياتها إصلاح القطاع الصحي العمومي والقطاع الصحي الجامعي. وهذا ما يدفع الأطباء إلى التلويح بالإضراب إذا لم تحترم الحكومة تعهداتها.ويؤكد محدثنا بان الاستجابة لهذه الطلبات ليست حلا جذريا ولكنها خطوة في اتجاه الحل واعترافا بالدور الجامعي للطبيب، وشدد على ضرورة ان تقترب ميزانية وزارة الصحة من المعايير الدولية من أجل الخروج بالقطاع الصحي العمومي من أزمته.وبقول دكتور الأمراض الصدرية عبد العزيز المثلوثي لـ «القدس العربي» إن أزمة كورونا عرّت عيوب المنظومة الصحية التونسية العمومية. وأكد أن المرضى الذين يتوفون بفيروس كورونا في تونس جلهم لا يحصلون على الأوكسجين بسبب عدم توفر آلات التنفس الخاصة في بعض المستشفيات العمومية خاصة في الجهات الداخلية. وهذا ما دفع المثلوثي إلى اللجوء مع بعض الفاعلين في منظمات المجتمع المدني لإطلاق مبادرة للتبرع لمستشفى ماطر الحكومي من أجل إنشاء وحدة كورونا تكون مهيئة بالتجهيزات اللازمة. وأكد أن محاولاته كادت تتعثر لأن عدد المتبرعين من رجال الأعمال كان خجولا رغم خطورة الوضع الصحي الوبائي في تونس. وحذر من أن هذه الأزمة قد تتفاقم وتزداد المخاوف من عجز المنظومة الصحية التونسية على الصمود في وجه كل هذه التحديات إذا لم يتم اتخاذ حلول عاجلة في أقرب وقت.ويؤكد الدكتور المثلوثي بأن المنظومة الصحية العمومية التونسية تراجعت بشكل ملحوظ حتى أصبحت أقل كفاءة من القطاع الصحي الخاص. ويعود هذا التراجع لعدة أسباب أهمها غياب خطة سياسية واضحة للنهوض بهذا القطاع وتطويره ففقد بريقه واشعاعه. وقال ان أزمة كورونا جاءت لتزيد الطين بلة وتعري كل العيوب وتكشف عن النقص الحاد في المعدات والخدمات الصحية حتى الأساسية منها وخاصة في المستشفيات والمراكز الصحية بالجهات الداخلية للبلاد والتي باتت غير قادرة على توفير احتياجات المرضى وخاصة منهم ذوي الحالات الصعبة إذ تفتقر جل هذه المراكز للأوكسجين المركزي وآلات المراقبة الدقيقة وأجهزة التنفس الاصطناعي. وحتى أسرّة الإيواء فيها قليلة.ويوضح أن هذا الوضع سبّب ارتفاعا في حالات الوفيات بالجهات الداخلية للبلاد.وعن الحلول والاقتراحات التي يقدمها المثلوثي يضيف: «من بين الحلول الآنية التي يجب أن نعوّل عليها لتحسين الوضع الصحي وإنقاذ مواطنينا في ظل ضعف الإمكانيات الحكومية اللجوء الى مبادرات من المجتمع المدني لتسخير آلات وتجهيزات والرفع من جاهزية مستشفياتنا بالجهات الداخلية.»ويضيف: «من بين المساعي التي تبشر بخير ما نقوم به حاليا بمدينة ماطر من ولاية بنزرت وبالتنسيق مع جمعية أهل ماطر للثقافة والتنمية برئاسة توفيق النهدي، قصد إنشاء وحدة عناية مركزة مجهزة بآلات متطورة وتدعيم المستشفى بالاوكسيجين المركزي. ولم يكن هذا المشروع ليرى النور لولا التبرعات القيمة التي وصلتنا مؤخرا من ثلة من الأطباء ومن بعض رجال الأعمال الخيرين».

المصدر

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد