- الإعلانات -

- الإعلانات -

الآيديولوجيات لا تتعايش | الشرق الأوسط

بالنسبة إلى المجتمعات التي قطعت طريقاً طويلاً في التنمية والتقدم، فإنَّ مجرد الحديث عن الآيديولوجيا يعد ضرباً من ضروب التقوقع في الماضي، ومظهراً من مظاهر عدم مواكبة ما طرأ على العالم من تغييرات، جعلته يميل نحو أفكار وتصورات جديدة، تُدين بالأساس لفكر الأنسنة والمواطنة، وموجهة النضال نحو الحقوق الفردية والحقوق الثقافية.في مقابل ذلك، نجد أنَّ الفضاء العربي ما زال يهدر الجهد والثروة والتفكير والمعارك في صراعات آيديولوجية تضرب بمشكلات الشعوب الأساسية عرض الحائط، حتى بما تنصُّ عليه الدساتير من بنود تؤسس لبيئة اجتماعية تقوم فيها العلاقات الاجتماعية على التعايش الذي هو الهدف النبيل لقيم المواطنة.طبعاً من المهم الإشارة إلى أنَّ عودة الحديث عن الآيديولوجيا تزامنت مع ظهور الإسلام السياسي في المنطقة. ففي تونس مثلاً، وعلى امتداد التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الجديدة، لم تكن الآيديولوجيا حاضرة ولا فاعلة. ولكن بعد سقوط النظام في 14 يناير (كانون الثاني) 2011 وعودة الإسلام السياسي للنشاط والمشاركة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وفوز حركة النهضة بالأغلبية النسبية، فإنَّ الصراع الآيديولوجي الذي كان في السبعينات والثمانينات عاد بقوة بين قواعد حركة النهضة، والحداثيين سواء التجمعيون منهم أو المستقلون.ولقد أكدت تجربة تونس التي ما زالت «قائمة الذات» أنَّ الإسلام السياسي عامل قوي في تغذية نفور التوجهات الفكرية المغايرة له. لنقل إنَّ مجرد وجود الإسلام السياسي هو عنصر محرك ومولّد للآيديولوجيات الأخرى التي تغير شكل وجودها من مكون من مكونات المشروع التنموي، ومصدر أفكار من أجل التغيير الاجتماعي القائم على التحديث، إلى شكل آخر من أهم ملامحه الدفاع عن النفس كفكر، وتصور للمجتمع وخلفية فكرية. بمعنى آخر فإنَّ وجود الإسلام السياسي يدفع بالتوجهات الفكرية التحديثية للهجوم والدفاع عن وجودها ومكاسبها، لأنَّها مستوعبة فكرة أنَّ الإسلام السياسي يهدف إلى الحكم ويعادي كل المرجعيات الأخرى.إنَّ الإسلام السياسي آيديولوجيا، ومن خصائص أي آيديولوجيا الانغلاق والتعصب. ويكفي التعمق في هذا التفسير البسيط والواضح حتى ندرك أنَّ الحديث عن التعايش في مجتمع تخلص فيه أطراف للآيديولوجيا هو كذبة كبيرة جداً. فبين الآيديولوجيا كتصور قائم على الإقصاء والتعايش القائم على القبول أسوار شاهقة.ويجب ألا يفهم من هذا الكلام تحامل على الحركات الإسلاميّة، بقدر ما هو موقف موضوعي مستقى من مرجعيات هذه الحركة التي تظهر روافدها والمفاهيم التي تبني بها تصورها أنَّ كل المرجعيات الأخرى فاقدة للحقيقة، ولا ينفع معها غير التكفير.طبعاً لاحظنا كيف أنَّ عودة الإسلام السياسي في مصر وتونس في بداية الثورات اتسمت بالحذر وباستبعاد تهم التكفير والإقصاء، وذلك لأنَّ شروط المشاركة السياسية ما عادت تتسامح مع هذا الخطاب، ولكن في الوقت نفسه لم نسمع أو نقرأ ما يفيد تجاوز الإسلام السياسي لروافده ومرجعياته وانتقاده لها. أي أنَّ الصمت ظلَّ مهيمناً وفتح الفهم على مصراعيه للريبة والتشكيك.وبوجود مثل هذا المأزق فإنَّ الواقع ينحرف من العمل من أجل التقدم والتنمية والتفكير في السبل الكفيلة بتحقيق العدالة الاجتماعية، وامتصاص أسباب الاحتقان الاجتماعي إلى صراعات ذات بُعد آيديولوجي يصل إلى حد العمى؛ حيث لا هاجس سوى التحارب آيديولوجياً من أجل البقاء آيديولوجياً. لذلك فإنَّ البلد الذي تنخره الآيديولوجيا هو بلد معطل عن التنمية وفي تخلف اقتصادي مؤكد، وفي مرحلة لا حراك فيها غير التقهقر وتراكم الأزمات.المشكلة الأخرى أنَّ الاحتكام للآيديولوجيا يعطل مسار المجتمع في تجسيد قيم المواطنة التي أصبحت اليوم هي المعركة النضالية الرئيسية، ذلك أنَّ الصراع ذا البعد الآيديولوجي تسوده الانفعالية، وتغيب عنه العقلانية والموضوعية، ومن ثم فإنَّ الصراع الآيديولوجي يُحتم الاعتداء أيضاً على قيم المواطنة، لأنَّ الحرب مع الخصم الآيديولوجي شرسة، وهي حرب بقاء ووجود وتستعمل كل الأسلحة المسموح بها وغير المسموح بها.فكل المواقف تصبح بروائح آيديولوجية. وأضرب من تونس مثالاً حيث إنَّ بطلة التنس التونسية أنس جابر مع كل فوز لها تتعالى أصوات الحداثيين، وتوظفه للتدليل على نتائج مشروع الدولة البورقيبية الحديثة، في حين أنَّه عندما فازت امرأة من حركة النهضة وهي الصيدلانية سعاد عبد الرحيم بمنصب رئيسة أهم بلدية في تونس، فإنَّ الأصوات التي تعالت في غالبيتها كانت تابعة لحركة النهضة فقط.أليست الآيديولوجيا هي التي دفعت بالكيل بالمكيالين في هذا المثال الذي أشرنا إليه؟رُفع خيار التوافق السياسي في التجربة التونسيّة، وأظهرت النتائج أنَّه خيار ظرفي عابر قصير المدى لا يمكن للشعوب الرهان عليه، ما دام التوافق قائماً بين أطراف مختلفة الآيديولوجيات، وخاصة عندما تكون الآيديولوجيا المهيمنة دينيّة وطرفاً فاعلاً في الحقل السياسي.كما أنَّه من الخطأ الاعتقاد أنَّ الصراعات لن تتجاوز الحقل السياسي، بل إنَّ شمسها الحارقة وظلالها ستشمل الاقتصاد والمالية، وسيسود المجتمع العنف والجريمة والشعور بالاغتراب في وطنه.الآيديولوجيا هي أفضل وصفة لإهدار وقت الشعوب وقتل طموحات الشعوب، وسرقة أعمار الشباب وأحلامهم. هكذا ينتشر العزوف عن المشاركة السياسية، إذ الآيديولوجيا تظهر الساسة في صورة غير المسؤولين والفاشلين في الاضطلاع بوظيفتهم الأساسية المتمثلة في إشباع توقعات ناخبيهم.لقد بات ملحاً جداً الفصل بين السياسة والآيديولوجيا. فالسياسة مجال تقديم الحلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. وهنا نعود إلى مربط الفرس الذي لا يوليه الناخبون في بلداننا أهمية، وهو البرامج الانتخابية للمترشحين للحكم. فالفيصل هو البرامج الأكثر قدرة على الإقناع، وتقديم الحلول الميسرة للحياة، وليس الاختيار على أساس الآيديولوجيات والشعارات.يجب أن تتعلَّم شعوبنا أنَّ الانتخابات هي تنافس بين برامج واقتراحات للتنمية والدخل الأفضل والحلم الأكبر. وهو درس سيجعل المحاسبة تكون على أساس التعهدات والبرامج، وهكذا تتراكم التجربة الديمقراطية ويصبح البرنامج الانتخابي هو الجوهر.يكشف لنا التاريخ عن تجارب مريرة للدمج بين السياسة والآيديولوجيا. ويكشف لنا التاريخ والحاضر أيضاً حقيقة أنَّ الإسلام السياسي إذا ما شارك في حياة سياسية، فإنَّ الإرباك يتفشى ويصعب التعايش، ويكون الصراع هو البرنامج المسكوت عنه بين الجميع.

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد