- الإعلانات -

- الإعلانات -

الإعلام والدعاية الأمريكية في عصر التزوير المتقن

مصطفى قطبي- بوابة افريقيا الاخبارية |

19 January, 2022

يبدو الإعلام ـ في يومنا هذا ـ سلاحاً أمضى في ترسيخ الحقائق، أو قلبها، وتتسيد أمريكا، بما تملكه من إمكانات، عصر الإعلام هذا، بحيث تملك مؤسسات إعلامية عملاقة لديها برامجها المعدة للتضليل والتزييف والفبركة ومدججة بكل ما تتطلبه للكذب… ولتأكيد ما نقول، يرى تشومسكي، “أن الإعلام الأمريكي ومؤسساته التي تحشد كل شيء خدمة للأهداف الأمريكية في العالم، تعمل وفق القاعدة التي تقول لابد من تزوير كامل للتاريخ للتغلب على المشاعر المرضية لتجعلنا نبدو كأننا نهاجم وندمر شخصا نحمي أنفسنا منه… وندافع ضد وحوش ومعتدين كبار.” الأكيد اليوم أنّ أمريكا تعتبر الحرب الدعائية ركناً رئيسياً من سياساتها، ولا يمكن أن تخطو خطوة واحدة في أي اتجاه إلا وكانت “البروباغندا” أساس تحركها وممارساتها العدوانية وبسط هيمنتها على الدول.

وللأسف فالبلدان العربية تعتبر اليوم من أكثر الدول تعرضاً للحرب الإعلامية، فقد تحالفت قوى عديدة تلوح متنافرة بينها على ضخ موجة كبيرة من المواد الإعلامية للتضليل على الواقع العربي واستحداث مصطلحات ومفاهيم عنه لا تنسجم وحقيقته، وتطالعنا يومياً وسائل إعلام مختلفة بمواد تهدف لتزييف وعي المتلقي في الخارج والداخل بمفاهيم مختلقة عنه وترسيخ مشاعر الخيبة والهزيمة في نفس المواطن العربي والتشكيك في أهمية ماضيه وآفاق مستقبله. فالحرب الدعائية، تشنها الولايات المتحدة من أجل تحقيق مآربها في كل مكان من العالم، وكي لا نذهب بعيداً سنأتي على ذكر أمثلة من الواقع تؤكد ذلك، فمن يتذكر المرحلة التمهيدية لأحداث ما سمي بـ “الربيع العربي”  يدرك أن الدعاية الغربية بدأت بشن “حرب الصور” وقامت بسيناريوهات تمثيلية تجسد أبشع أشكال الاستغلال للاستفادة منها في قتل الإنسان المستهدف عقلياً وأخلاقياً، وبالتالي جره بدايةً إلى “قبول” أهداف محركي الفكرة، ومن ثم الاندماج فيها إلى حد التعاطف معها والاندفاع بشكل لا إرادي ـ وربما وفي كثير من الأحيان ـ إرادياً لتبنّي ما تم تسويقه، والقيام بالفعل لخدمة المحرض من حيث يدري أو لا يدري.

وعادة ما تستخدم الدول الكبرى إعلام صناعة الأزمة والحرب النفسية كأسلوب لتنفيذ استراتيجياتها الكبرى في الهيمنة والسيطرة على العالم وتأكيد قوتها وفرض إرادتها وبسط نفوذها وتحقيق أهدافها الخفية طويلة المدى التي لا تستطيع الإعلان عنها، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة في العراق. فلم يكن غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 آخر برامجها الدعائية الكاذبة، حيث سوقت من أجل التمهيد له قصصاً وفبركات دفعت من خلالها الرأي العالم لقبول عدوانها الذي بدأته بما سمي بـ “الضربة الاستباقية” التي تتيح للقائمين على العدوان بالتضليل والدعاية لتحقيق مخططاتهم العدائية، وما إن يصحو الرأي العام من غفلته، حتى يكون الأمر قد تمت تسويته على الأرض لتبدأ بعدها بإيجاد مسوغات وقصص إعلامية أخرى تستمر من خلالها بخداع الرأي العام مرات ومرات حتى تنفذ كل أهدافها.

تعتمد إدارة الأزمات السياسية المصنعة على تقنيات التضليل الإعلامي، وهو ما يطلق عليه الخبراء عمليات الدعاية السوداء، القائمة على ما يسمى بناء القوام التراجيدي، أي جعل السرديات أكثر تماسكاً وغير قابلة للافتضاح، وكذلك توظيف المعاناة، بتضخيم المقاربات بشكل تحمل فيه المستهدف بالدعاية السوداء المسؤولية عن المعاناة المفترضة، ويتم فيها أيضاً توظيف التباينات باستخدام عمليات التنميط الإثني والقبلي والثقافي وغيرها، كما أنها تستثمر التزوير بشكل واسع، سواء عن طريق المونتاج، أم من خلال المواد والوثائق المزيفة واستخدام شهود الزور، كما يؤكد الخبراء، وكما يحصل في إدارة الإعلام المغرض لما يجري في الوطن العربي.‏ ولمعرفة هذه الحقيقة فإن من خططَ للسيطرة الاستعمارية على العالم العربي بشكل خاص، وضع الإعلام في قمة أسلحته وفوق بقية الأسلحة الحربية المتنوعة، لأن التحكم في ردود فعل الرأي العام يشكل أحد شروط شن الحروب الكبرى لفرض الهيمنة الأمريكية وتحقيق رغبتها الكبرى في شرق أوسط جديد وفق معاييرها للسيطرة على ثروات العالم، ومن هنا تكمن العلاقة المأزومة بين نظام عالمي قمعي وآخر، وبين تلك العلاقة التبادلية بين موت الأخلاق وبؤس النظام العالمي (المتحضر) الذي أدخل المجتمعات البشرية في دائرة الشك والفوضى والعبث والدوران حول قطب واحد، لأن القوة في القرن الواحد والعشرين لن تكون في المعايير الاقتصادية أو العسكرية، ولكنها تكمن في خزائن المعرفة، و خطورة الأمر يكمن فيمن يمتلك أدوات هذه القوة لتحقيق مآرب وأهداف خاصة لنشر معلبات إعلامية جاهزة وغسل عقول البشر للتحكم بهم واستغلالهم لأهداف اقتصادية أو سياسية أو آيديولوجية.

فما هي الطرق التي تستخدمها وسائل الإعلام الأمريكية للسيطرة على الشعوب عبر وسائل الإعلام؟

للإجابة على هذا السؤال، لابد أن نستأنس بشهادة المفكر الأمريكي أفرام نعوم تشومسكي” أحد فلاسفة هذا العصر المشهورين، وله العديد من النظريات العلمية التي تدرَّس في الجامعات، كما أنه متفهم دون سواه من الفلاسفة الغربيّين لمشكلات شعوب العالم الثالث، وبالأخص منها مشكلة الشعب الفلسطيني الذي شرد من أرضه ووطنه من قبل الحركة الصهيونية وكيانها الدخيل، فقد اختزل المفكر الأمريكي ”تشومسكي” الإجابة، وأجملها في تسع استراتيجيات أساسية تلقي الضوء على أساليب صناعة وعي الشعوب وإعادة هيكلتها، بحيث تسهّل عملية السيطرة عليها… فما هي هذه الاستراتيجيات…؟‏ 

أولا: استراتيجية الإلهاء: وهي عنصر أساسي في التحكم بالمجتمعات، وتتجسّد في تحويل انتباه الرأي العام عن طريق ضخ وابل من الإلهاءات والمعلومات التافهة بشكلٍ متواصلٍ وكثيفٍ، لمنع عامة الناس من الاهتمام بالمعارف اللازمة على مبدأ يقول (حافظ على تشتت اهتمامات العامة، بعيداً عن المشكلات الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية، اجعل الشعب منشغلاً، دون أن يكون له أي وقت أو أي قدرة على التفكير).‏ 

ثانياً: ابتكر المشكلات… ثم قدّم الحلول. هذه الطريقة تسمى أيضاً ”المشكل ـ ردّة الفعل ـ الحل”. أي في البداية يتمّ ابتكار المشكلة أو الموقف المتوقع بغرض إثارة ردة فعل معينة من قبل الشعب، وحتى يطالب هذا الشعب بالإجراءات المراد أن يقبل بها. وعلى سبيل المثال: ترك العنف الحضري يتنامى، أو تنظيم تفجيرات دامية، حتى يطالب الشعب بقوانين أمنيّة على حساب حريّته، أو ابتكار أزمة مالية حتى يتمّ تقبل التراجع على مستوى الحقوق الاجتماعية وتردّي الخدمات العامة كشرّ لا بد منه! 

ثالثاً: استراتيجية التدرّج، بمعنى أنه لكي يتم قبول إجراء غير مقبول عادة، يكفي أن يتم تطبيقه بشكل تدريجيّ، مثل أطياف اللون الواحد (من الفاتح إلى الغامق)، وعلى فترة تدوم سنوات أو أشهراً أو أياماً! وقد اعتمدت هذه الطريقة لفرض الظروف السوسيو ـ اقتصادية الجديدة فيما يسمى بـ “الربيع العربي”: بطالة شاملة، هشاشة، مرونة، تعاقد خارجي ورواتب لا تضمن العيش الكريم، وهي تغييرات أدت إلى ثورات.

رابعاً: استراتيجية المؤجَّل: وهي طريقة أخرى يتم اللجوء إليها من أجل إكساب القرارات المكروهة القبول لدى الناس، والإيحاء على أنَّ تقديمها كدواء وكحلّ ”مؤلم ولكنه ضروري”، ويكون ذلك بكسب موافقة الشعب في الوقت الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل، لأنّ قبول تضحية مستقبلية يكون دائماً أسهل من قبول تضحية حينيّة، وذلك لأسباب أهمّهاأولاً ”كل شيء سيكون أفضل في الغد”، أو أنه سيكون بإمكانه تفادي التضحية المطلوبة في المستقبل، وأخيراً يترك كل هذا الوقت للشعب حتى يتعوّد على فكرة التغيير ويقبلها باستسلامٍ كاملٍ عندما يحين أوانها.‏ 

خامساً: مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار: في هذا السياق تستعمل غالبيّة الإعلانات الموجهة لعامة الشعب خطاباً وحججاً وشخصيات ونبرة ذات طابعٍ طفوليّ، وكثيراً ما تقترب من مستوى التخلف الذهنيّ، وكأن المشاهد طفل صغير أو شخص معوَّق ذهنيّاً، حيث كلما تمَّتْ محاولات مغالطة المشاهد، كلما زاد الاعتماد على تلك النبرة. لماذا؟ يعلل أصحاب هذه الاستراتيجية ذلك بالمقولة التالية ”إذا خاطبتَ شخصاً كما لو كان طفلاً في سنّ الثانية عشرة، فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردّة فعلٍ مجرّدة من الحسّ النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردّة فعل أو إجابة طفل من عمر الاثني عشر عاماً”.‏ 

سادساً: استثارة العاطفة بدل الفكر: وهي تقنيّة كلاسيكية تستعمل لتعطيل التحليل المنطقيّ، وبالتالي تعطيل الحسّ النقديّ للأشخاص، كما أنَّ استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور إلى اللاوعي حتى يتم زرعه بأفكار ورغبات ومخاوف ونزعات أو سلوكيات محدّدة.‏ 

سابعاً: إبقاء الشعب في حالة جهلٍ وحماقة: وذلك من خلال العمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطرق المُستعملة للتحكم به واستعباده، وذلك تنفيذاً لمقولة مفادها ”يجب أنْ تكون نوعيّة التعليم المُقدَّمة للطبقات الدنيا هي النوعية الأفقر، وبطريقة تبقى على أثرها هوة واسعة معرفيّة تعزل الطبقات الدنيا هذه عن الطبقات العليا، دون التمكن من فهم طريقة وأسلوب هذا العزل المتعمَّد من قبل الطبقات الدنيا”.‏ 

ثامناً: تشجيع الشعب على استحسان الرداءة في كل شيء، بمعنى تشجيعه على أنْ يجد أنه من ”الرائع” أن يكون همجيّاً وغبيّاً وجاهلاً وبعيداً عن المعرفة العلمية والحضارة.‏ 

تاسعاً: تعويض التمرّد بالإحساس بالذنب، وتقوم هذه الاستراتيجية على جعل الفرد يظن أنه هو نفسه المسؤول الوحيد عن تعاسته وفقره وتخلفه، وأنّ السبب في تلك المسؤولية يعود إلى نَقصٍ في ذكائه وقدراته أو مجهوداته، وبالتالي عوضاً عن أنْ يثور على النظام الاقتصادي، يقوم باحتقار وبامتهان نفسه، ويحسّ بالذنب، الأمر الذي يولد عنده شعوراً بالاكتئاب يكون من آثاره الانغلاق وتعطيل التفكير والذهن وتعطل أي تحرّك إيجابي. وبطبيعة الحال، فإنَّ شلّ التفكير أو تعطيله وتعطيل أي إمكانية للتحرك، كل ذلك يقود إلى الخنوع والذلّ والقبول بالأمر الواقع مهما كان قاسياً، والوصول إلى التسليم بأنّ ”الشعب لا يستحق الديمقراطية” بل يستحق أن يحكم بالقوة وبالسيف كما يُقال.‏ 

هذا ومن خلال ما تقدّم عرضه من هذه الاستراتيجيات التسع، نرى أنها تطبق فعلاً على الكثير من دول العالم الثالث، وبصورة خاصة على المنطقة العربية، لاسيما من حيث تركيز وسائل الإعلام الأجنبية على الكثير من النقاط الواردة في هذه الاستراتيجيات. فالملاحظ قبل كل شيء تحويل انتباه الرأي العام العربي عن مشكلة الأمّة، و العزف على الوتر الطائفيّ والمذهبي، ثم تشجيع الإرهاب في بعض الدول العربيّة عبر خلق بؤر إرهابية ومدّها بالمال والسلاح وتبرير إرهابها تحت أبواب المطالبة بالحريّة والديمقراطيّة… هذا إلى جانب الاستهتار بالشعوب واعتبارها غير قادرة على تقرير مصيرها بنفسها أو التشكيك بقدرة الإنسان العربي على اقتراح الحلول لمشاكله عبر تصويره بأنه إنسان يفتقد المبادرة والذكاء.‏ ومن واقع الادعاء بالحرص على الشعوب والثورات التي حصلت في العالم العربي، تنظر أمريكا إلى ما يحصل في الدول العربية التي اجتاحها ”الصقيع العربي”، على أنه استجابة لما تطرحه من دعوات للديمقراطية. وبالطبع ترى واشنطن من زاوية هذا المنطق، وإن كانت تخفي ذلك أحياناً أنها معنية في الوضع الداخلي العربي… وتسعى إلى ترميم مواقعها التي انهارت بعد ما حدث من ثورات في مصر وتونس واليمن والسودان… 

ومن ثمّ وتلاقياً مع أهدافها تسخر التكنولوجيا ”الصورة” ومن جانب واحد لتعرض لنا ما يخدم سياساتها وإستراتيجيتها في المنطقة العربية، وتتقاطع مع من ينفذون هذه المخططات على الأرض عبر مدّهم بكل وسائل التطور. ولنلحظ هنا أن من توفر لهم أمريكا هذه الأجواء ومعها بالطبع فرنسا وبريطانيا منغمسون إلى حد النخاع بمشروعها… وهم أصلاً بعيدون كل البعد عن الواقع الحقيقي للشعوب العربية وتطلعاتها. وبالطبع من الصعب أن تجد آثار الغزو اليومي تأثيرها دون توفر عنصر رئيسي وهو وجود الجسور المحلية الإقليمية والداخلية للغزو في البلدان الأخرى، فالأنظمة السياسية التابعة للمراكز الاستعمارية الغربية والأمريكية، تقوم بعملية الترويج للغزو الإعلامي وتصوغ مؤسساتها الإعلامية والثقافية وفق مضمون الغزو الامبريالي الإعلامي، ووسائل الإعلام المحلية التي تقوم بعملية الضخ اليومي لبرامج المركز الغربي، تحاول إعطاء وسائلها طابعاً ”محلياً” وتدعي الحيادية والموضوعية بهدف زيادة التأثير من خلال الاندماج والتماهي، بينما نجد في برامجها الإخبارية عملية تشويه الأحداث بصورة فظيعة، يمتزج فيها الكذب بالحقيقة وفي حالات معينة يكون الحدث صحيحاً وينقل بصورة تشبه الحقيقة ولكنها تأخذ في مجمل الوضع لتصبح مشوهة في نهاية الأمر وبالتالي يحصل المتلقي على معلومات غير صحيحة وكاذبة، المهم أن يدفع لسلوك منسجم مع المعلومات المفبركة. 

هي إذاً تكنولوجيا صناعة الموت والقتل… وقد خبرنا كغيرنا تلك الصورة البشعة… ولن تبيضها كل أفلام هوليوود… فالعالم استيقظ ويصنع ثقافة كونية إنسانية بعيداً عن الكاوبوي ورصاص مسدسه الذي لا يفرغ.

كاتب صحافي من المغرب.

#الإعلام #والدعاية #الأمريكية #في #عصر #التزوير #المتقن

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد