الاتحاد العام التونسي للشغل… صفحات من التأثير النقابي والسياسي

نجاة فقيري – بوابة إفريقيا الإخبارية |

10 March, 2021

إثر انعقاد المؤتمر التأسيسي للإتحاد العام التونسي للشغل ،يوم 20 جانفي 1946، بقاعة الخلدونيّة بتونس العاصمة الذي أشرف عليه المناضل الرمز فرحات حشّاد و أعلن فيه عن ميلاد الإتحاد العام التونسي للشغل حيث ترأسه الشيخ محمد الفاضل بن عاشور و تولى فرحات حشاد أمانته العامة، بدأت هذه المنظمة مسيرتها كشريك فاعل في تونس ليس فقط اجتماعيا و عماليا بل شريكا سياسيا حيويا و هاما.استطاع الهيكل النقابي الجديد استقطاب عدد كبير من العمال وبلورة الوعي الوطني لديهم من خلال النضالات اليومية فتجاوزت أهدافه طبقة الشغالين ومشاكلها الاجتماعية، لتشمل القضايا الرئيسية العامة للشعب التونسي المستعمر المضطهد،وهي نضالات لخصت في الجملة الشهيرة المختصرة الكلمات عميقة و صادقة المعاني “ أحبك يا شعب” للزعيم فرحات حشاد.فإلى جانب النضال الاجتماعي الذي قام به الاتحاد العام التونسي للشغل خلال الفترة الاستعمارية،لعب دورا هاما ومحوريا من خلال الإضرابات مواقفه من مختلف القضايا الوطنية المطروحة بتنسيقه مع الأحزاب الوطنية على غرار الحزب الحر الدستوري الجديد لأجل استرداد الوطن سيادته و حريته فكان قادته في الصف الأول ضد المستعمر الفرنسي .وتولى الزعيم فرحات حشاد خلال فترة المقاومة قيادة الحركة الوطنية، وهو ما جعل اليد الحمراء الاستعمارية تغتاله بعد ان اعتبرته خطرا حقيقيا محدقا بمصالحها، فاستشهد يوم 5 ديسمبر 1952 في ضاحية رادس بالعاصمة،لكنه ترك هيكلا قويا و شريكا فاعلا لبناء الدولة الوطنية المستقلة بالمشاركة الإجتماعية و السياسية على حد السواء.شاركالإتحادفي بناء الدولة الجديدة ما بعد الإستقلال بوفاق مع حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1957–1987) حيث شارك نقابيون في أول حكومة كوّنها بورقيبة بعد الاستقلال، إذ أسندت وزاراتلقيادييننقابيين هم مصطفى الفيلالي، وعبد الله فرحات، والأمين الشابي، ومحمود المسعدي.واستمرت العلاقة مع السلطة الحاكمة بين أخذ ورد، حتى بداية تنفيذ السياسات الاقتصادية الليبرالية في السبعينات، فنشأ الصدام في العلاقة فظهر الاتحاد كمعارض طبيعي للنظام في غياب أي معارضة سياسية إلى أن وقعت أحداث جانفي 1978، أو ما يسمى بـ”الخميس الأسود” عندما استقال أمين عام الاتحاد الحبيب عاشور، من قيادة الحزب الاشتراكي الدستوري بزعامة بورقيبة، وأعلن إضرابًا عامًا، فوجهت السلطات تهمة “التآمر” للقيادة النقابية، وسجن الحبيب عاشور وسقط عشرات الضحايا في مواجهات بمختلف المدن التونسية بين النقابيين وقوات الأمن.وتميزت فترة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في عمومها بتراجع العمل النقابي و مع ذلك تمت في عديد المناسبات الاستجابة لبعض المطالب الاجتماعية (وصف الكثيرون هذه الفترةبالتفاوضيةأكثر منهابالصداميةحيث عمل بن علي على الترضيات علما وجزما منه بقوة الاتحاد وقواعده) ولا ننسى موقف الاتحاد حينها من زيارة الوفد اليهودي سنة 2005 عملا بمبادئه و مواقفه الثابتة المناهضة لجميع أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني.فور انطلاق الثورة التونسيّة،و في ظل احتضان الاتحاد للتيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني غير المعترف بها والمعارضة للنظام، انطلقت من مقرّات فروع الاتحاد الاحتجاجات الاجتماعية منذ يوم 17 ديسمبر 2010 بعد حرق “البوعزيزي” لنفسه ، والتي تمكنت من الإطاحة بنظام بن علي في وقت لاحق ، إذ خرج عشرات الآلاف من الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، رافعين شعارات الثورة، وانطلقت أغلب الإحتجاجات والمظاهرات في العاصمةو بقية المناطق من دور الاتحاد و كانت جل العناصر المحركة لها نقابية إلى جانب الناشطين في المجال الحقوقي.وجسّد الاتحاد العام التونسي للشغل المعارضة في زمن الترويكا، حيث واجه الحكومة التي تشكلت في ديسمبر 2011، من قِبل حركة النهضة ،بهدف تأمين المسار الديموقراطي وقطع كل صلة مع الماضي.وقاد عدة محطات نضالية مثل انتفاضة سليانة في نهاية نوفمبر2012، والإضراب العام الذي دعا إليه ا يوم 13 ديسمبر 2012، وذلك على خلفية رفضه لسياسات الترويكا الاجتماعية والاقتصادية،ولتوجهاتهاالإيديولوجية.كما رفض الاتحاد العام التونسي للشغل التشكيلات الملقبة بـ “رابطات حماية الثورة”،واتهمها بقمع تكوينات المجتمع المدني من أحزاب سياسية ونقابات معارضة للحكومة.و أمام التدهور السريع للوضع العام اقتصاديا و اجتماعيا و التهاوي السريعوللديناروالضرر الكبير الذي لحق بالمقدرة الشرائية للطبقة الشغيلة، وجد الإتحاد نفسه المسؤول الأول في الدفاع باستماتة عن مطالب منظوريه وأوضاعهم الاجتماعية التي تتردى و تزداد سوءا يوما بعد يوم منذ 2011.كانت كل المطالب مشروعة و لا مزايدة فيها رغم حملات التشويه التي حاولت ضرب المنظمة العتيدة متناسية مساهمته الفعالة في بناء تونس الجديدة و لازال التحدي قائما للخروج بالثورة و أهدافها إلى بر الأمان و هو ما تجسد بداية في الحوار الوطني الذي قاده الإتحاد ، فهو من بادر إلى دعوة الفرقاء إلى مائدة الحوار وضمّ إليه الأطراف الثلاثة الأخرى التي رعته، وقاد أمينه العام المفاوضات العسيرة. فجنّب الرباعي الراعي للحوار،الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والصناعات التقليديّة والهيئة الوطنيّة للمحامين بتونس، والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان حربا أهليّة كانت تعصف على مشارف البلاد.و توج الحوار بالنجاح وطنيا أولا و عالميا ثانيا بحيازته على جائزة نوبل للسلام و في ذلك اعتراف دولي بالمحفل التاريخي الذي خاضته تونس و حماه الإتحاد رفقة شركائه من الرباعي الراعي للحوار حيث توافُق التونسيّين على دستور مدنيّ حديث متطوّر وانتقال سلس للسلطة عبر انتخابات نزيهة في عمومها.وعلى ضوء ما تعيشه البلاد اليوم، من أوضاع متردية على شتى المستويات في أسوأ أزمة منذ 2011،اقترح الاتحاد العام التونسي للشغل، في مبادرته التي وجهها الى رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد، إرساء هيئة حكماء تضم عدد من الشخصيات الوطنية المستقلة من كافة الاختصاصات تتولى مهام الإشراف على حوار وطني يقود إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية. وضبط اتحاد الشغل التونسي، أهم المحاور التي سيدور حولها الحوار الوطني في ثلاثة مجالات، يهم أولها الجانب السياسي، و يتركز أساسا حول تقييم قانوني الأحزاب والجمعيات في اتجاهمراجعتهمالسدّ الثغرات وتحسين مراقبة مصادر التمويل ومدى انسجام أهدافها وممارساتها مع أحكام الدستور.  وقد  أكدت المبادرة على ضرورة الانطلاق في حوار مجتمعي حول النظام السياسي يتواصل خارج روزنامة الحوار ولا يتقيّد بسقفه الزمني ويمكن أن تكون مخرجاته لاحقة تؤدّي إلى التفكير في تعديل النظام السياسي أو تغييره.كما تضم المبادرة مقاربة ومقترحات إصلاح إقتصادية واجتماعية.هذه الإنجازات و المواقف الصارمة للإتحاد العام التونسي للشغل خدمت التوافقات و يسرتها مما جنب البلاد الوقوع في سراديب مظلمة على مر تاريخ هذا الوطن، خلدها و أرخها و أسال حولها الكتاب والمؤرخون حبرا كثيرا، رغم الكبوات و رغم الأخطاء “كما قالت الكاتبة هالة اليوسفي” فان المتأمّل في تاريخ الاتحاد يلاحظ بيسر أنّ هذه المنظّمة لم تقم طوال وجودها إلاّ على منطق التوافق.فتركيبةالإتحاد العام التونسي للشغل ،الاجتماعيّة والتيارات السياسيّة المتعدّدة التي تخترقه والمصالح المتناقضة للقطاعات المهنيّة المختلفة داخله والضغوطات الجهويّة والعلاقات الملتبسة مع السلطة والمعارضة جعلت منه قوة توافقية و مثلا يحتذى به. فسياسةالاتحاداالعام التونسي للشغل لا تقوم على مصالح سياسية أو إيديولوجية أو لصالح تيارات أو اتجاهات فكرية معينة بل تقوم على التوافقات بين المصالح المتباينة .

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد