- الإعلانات -
التونسي المصباحي يتذكر المثقفين والشعراء و”أوهام إيديولوجيا البوليساريو”

حياة مغربية للأديب التونسي حسونة المصباحي يحكيها في أحدث كتبه الصادرة عن منشورات باب الحكمة، متضمنة قناعات بناها بعد عقود من معاصرة إشكالات المغاربِ والمنطقة العربية وأوروبا، والأوساط الثقافية والسياسية، وتقييدا لذاكرة أسماء وأمكنة ومؤسسات تعرف عليها على مر السنين. “الرحلة المغربية” شهادة يساري راديكالي سابق، ومؤمن سابق بالثورة سبيلا للتغيير، وشهادة مغاربي وعربي على واقع المنطقة، ورؤيته حول إشكالاتها، دون أن يقتصر على السياسة؛ فهذه المذكرات سفر في الرؤى الأدبية، والتاريخية، والتصورات الإسلامية المتطرفة والسلفية الماركسية، أو “الإيديولوجيا” التي “تصيب المتعلق بها بالعماء ليصبح عاجزا عن الإحاطة لا بواقعه الداخلي، ولا بالواقع الخارجي، متوهما أنه (بطل زمانه)، لا يأتيه الخطأ لا من الخلف ولا من الأمام. وكل مخالف له في العقيدة الإيديولوجية عدو لدود يُهدد وجوده، ويعمل على الفتك به وعلى تفكيك منظومته الفكرية، ويغدو عاجزا عن انتقاد أخطائه وعن التفطن إلى عيوبه”. وتحضر أسماء مغربية عديدة من عوالم الشعر والأدب والصحافة بالكتاب، عرفها مدونُه، من قبيل: عبد الكريم غلاب، محمد شكري، عبد اللطيف اللعبي، محمد خير الدين، عبد القادر الشاوي، حاتم البطيوي، ياسين عدنان، عبد الجليل لحجمري، الطيب الصديقي، محمد بن عيسى، عبد الكريم الطبال، عبد الكبير الخطيبي، عبد الله العروي، محمد باهي حرمه، عبد الجبار السحيمي، محمد برادة، إدريس الخوري، شرف الدين ماجدولين، عبد الكريم الجويطي، وغيرهم من الأعلام. منذ الصفحات الأولى من “الرحلة المغربية”، يكشف حسونة المصباحي شغفه بالبلاد واكتشافها، بعدما “أججت رغبتي في زيارتها، ما ترويه عنها كتب التاريخ… وكانت لأسماء هذه المدن مثل فاس، ومكناس، ومراكش، وطنجة، وكازابلانكا، والرباط، وأكادير، رنة موسيقية محببة للنفس… وهناك مدن أخرى لها أسماء غريبة مثل تلك التي نسمعها في الخرافات: ورزازات، وادي ايرس، تيفرت، شفشاون، تارودانت”…. لكن المانع عن الزيارة لم يكن خيرا في البداية: “بتأثير من الإيديولوجيات الثورية التي فُتنت بها وأنا في سن العشرين، مثلما كان الحال بالنسبة إلى جل أبناء جيلي، خيرت أن أخصص أول رحلة لي خارج بلدي إلى الشرق ظانا أنه في ذلك الوقت، أي مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ملتهب بالثورات الداعية إلى الحرية، والعدالة، والانعتاق من الاستبداد الشرقي الجاثم على العرب منذ عصور سحيقة… إلا أن خيبتي كانت مرة، ومُحبطة لكل آمالي”. وتابع: “بعد أن أقمت أشهرا وأسابيع في طرابلس، ودمشق، وبغداد، عدت إلى تونس وأنا في أسوأ حال، إذ إني لم أجد في بلاد الشرق ما يمكن أن يوحي بثورة تقوض ماضيا ثقيلا ومرعبا، موسوما بالمظالم وبكل أشكال الطغيان، ولم أصادف في أي بلد من تلك البلدان التي زرتها سوى الأكاذيب والأوهام والشعارات الجوفاء”. وتتوالى صفحات فورة السبعينيات، وصولا إلى “الربيع العربي”، في الشهادة على مسار بناء قناعة حول “الشعارات” و”ثوريي اليوم مستبدي الغد”، من أوجهها بعدَ الشهادة على ما حدث في تونس والمغرب وقوف عند قضية الصحراء. قضية الصحراء المغربية، التي تأخذ حيزا كبيرا من الكتاب بل وتنتهي به، يرى حسونة المصباحي أنها نتيجة ما عرفه العالم العربي من “أنظمة الثورات الكاذبة والمفتعلة”؛ عقب نجاح “نظام (الضباط الأحرار) في زرع الأوهام، ليفقد المجتمع المصري البوصلة”، وبعدما “أفضى الانقلاب العسكري إلى سلسلة من المجازر الوحشية التي سيظل العراقيون يعانون من تبعاتها لأمد طويل”، وبعدما “كان الليبيون يعيشون في دعة واطمئنان في ظل حكم الملك محمد إدريس السنوسي الذي كان زاهدا في الحياة، وفي السلطة، لما انقلب عليه العقيد معمر القذافي ليُغرق البلاد في الفوضى والعنف والهمجية”. وزاد في حديث عن نظام آخر من أنظمة “الثورات” هذه: “عالِمين بأن المغرب يشكل عائقا جسيما يحول دون تمددهم وتوسعهم في القارة الإفريقية، تعمد القادة الجزائريون شن حرب في خريف عام 1963 على جارتهم الغربية، وهم على يقين بأن النصر سيكون حليفهم. كما أنهم كانوا متيقنين أن تلك الحرب سوف تكون بمثابة الضربة القاتلة للنظام الملكي، وسوف تفتح الطريق لانهياره… إلا أن تلك الحرب التي سُميت بـ”حرب الرمال”، واستمرت ثلاثة أسابيع، انتهت بهزيمة نكراء للجيش الجزائري، وبانتكاسة مريرة لمخططات القادرة الجزائريين”. ثم في منتصف السبعينيات، لما أثيرت قضية الصحراء، كتب حسونة المصباحي: “وجدت الجزائر الفرصة السانحة (…) وكان من السهل عليها أن تعثر في ذلك الوقت على حفنة من المفتونين بالإيديولوجيات اليسارية لكي تبعث للوجود منظمة (البوليساريو) مطالبة بـ(حرية الشعب الصحراوي في تقرير مصيره) (…) كان هدفها الأساسي اختلاق (دويلة) ضعيفة تسهل السيطرة عليها، وإرضاخها لخدمة أغراضها التوسعية، وخنق المغرب في جنوبه الغربي، وحرمانه من استرداد جزء من أراضيه، راغبة في أن تنتصر الإيديولوجيا على الشرعية التاريخية”. ويتحدث الكاتب عن تعرفه على الصحراء المغربية سنة 1975، سنةِ المسيرة الخضراء، قائلا: “بدت تلك الجموع متحدة ومتضامنة وعازمة عزما بطوليا وسلميا على استرجاع ما اقتُطع وبُتر من وطنها من دون أن تكون مدفوعة بأي مطمح آخر، ومن دون أن تُهيجها، أو تؤثر عليها، أو تقودها نزعات إيديولوجية إن توسعية أو شوفينية أو عُدوانية. وربما لهذا السبب خلَت تلك المسيرة من كل ما يمكن أن يفسدها، أو يحيد بها عن الهدف الحقيقي، أي استرجاع الصحراء المغتصبة، وكأنها (مقدسة)، وربط الصلة التاريخية والروحية بين أبنائها وبين وطنهم الأم الذي هو المغرب”. ويضع المصباحي جبهة “البوليساريو” بتندوف الجزائرية في إطارها التاريخي، كاتبا في تفاعل مع الباحث رحال بوبريك: “لا تختلف في توجهاتها عن تلك الدول (الاشتراكية) التي نشأت في العالم الثالث في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، التي كانت تعد شعوبها بـ(الرخاء والمساواة والعدالة)، إلا أنها سرعان ما تنقلب إلى دولة شمولية بحزب واحد، وقائد واحد، وبأجهزة بيروقراطية تجمد حركة الناس، وتصادر أفكارهم وأحلامهم، وتخضعهم لرقابة إيديولوجية وسياسية تحول حياتهم إلى جحيم يومي”. وقدم على ذلك صفحات من الشهادات المكتوبة، وأخرى استقاها بنفسه في رحلاته المغربية والعربية. وفي محطة أخرى من محطات الكتاب، يسجل الكاتب التونسي سبب التزامه الشخصي بتدبيج ما دبجه حول المغرب: “عرقل هواري بومدين مشروع بناء المغرب العربي الذي كانت تتطلع إليه شعوب هذه المنطقة منذ الاجتماع الخارق للعادة الذي انعقد في مدينة طنجة سنة 1958، والذي حضرته وفود من تونس، ومن المغرب، ومن الجزائر الغارقة آنذاك في حرب التحرير. وتمثلت هذه العرقلة في سلوك سياسة عدوانية تجاه المغرب تحديدا. حدث ذلك منذ بداية استقلال الجزائر. وقد ازدادت هذه السياسة عدوانية وشراسة في أواسط السبعينيات عندما قام هواري بومدين باستدراج بعض الشبان الصحراويين المنبهرين بثوريته الكاذبة والمزعومة لتأسيس ما أصبح يسمى بجبهة البوليساريو، التي سارعت من جانبها بالإعلان عن انفصال الصحراء الغربية عن المغرب”. لكن الرئيس بومدين “لم يفلح في استقطاب واحد من ألمع مثقفي الصحراء، ومن أعمقهم تجربة وخبرة بالتاريخ، وبالسياسة، محمد باهي”، الذي عرض عليه رئاسة “الجمهورية”، فطلب مهملة للتفكير، وعاد إلى العاصمة الفرنسية باريس ليكتب في اليوم التالي “لا تجعلوا من لينين موظفا لدى فرانكو”، ونشر المقال يوم 3 غشت 1975. ويواصل المصباحي: “تطرق باهي، بهدوء ورصانة المثقف الواسع المعرفة والثقافة، إلى مسألة الصحراء موضحا منذ البداية أنها مغربية أو لا تكون، نازعا عن النظام الجزائري وعن أي نظام آخر مشروعية التدخل في القضية تحت أي غطاء أو مبرر؛ لأن التاريخ بكل حقائقه وتفاصيله يثبت ذلك بالأدلة القاطعة. وهو يرى أن تأسيس (البوليساريو) لا يخدم مصالح أهالي الصحراء، بل يُلحق بهم أضرارا فادحة، إذ إنه سيفصلهم عن الوطن الأم، ليكونوا في نهاية المطاف بلا حماية وبلا سند”. كما استشهد بمقال آخر لباهي انتقد فيه ما ارتكبه الرئيس بومدين من “حماقة” حينما “اختلق خرافة سماها الشعب الصحراوي العتيد”. ويمتلئ الكتاب بالمحطات الثقافية، التي من أبرزها “موسم أصيلة الثقافي” الذي يحضره منذ سنة 1986، وتوثقت فيه علاقته بعدد من الشعراء والمثقفين، وقال في مؤسسه محمد بنعيسى: “هو مثقف من طراز رفيع، متجذر في ثقافة بلاده، وعارف بجميع جوانبها، ومواكب ذكي لكل ما يجد من جديد على المستوى الثقافي والفكري والفني، لا في المغرب فقط، بل في العالم العربي وإفريقيا، وفي جميع أنحاء العالم. كما أنه سياسي ودبلوماسي يتحلى بالرصانة والحنكة والكياسة والخبرة الواسعة”. كما يقف حسونة المصباحي في الكتاب عند “أكاديمية المملكة المغربية”: “مبنى يحيل بهندسته المعمارية، وبالحديقة البديعة المحيطة به، إلى الزمن الأندلسي في أبهى جمالياته… سكينة وهدوء كما هو الحال في مراكز المعرفة الكبيرة والمرموقة. كان الملك الحسن الثاني هو مهندس هذا المشروع التنويري الكبير في مطلع الثمانينيات (…) ومنذ البداية حرص على أن يجعل الأكاديمية منارة معرفية مشعة عالميا، وقد اختار أن يكون أعضاؤها من المغرب، ومن جميع أنحاء العالم بقطع النظر عن اللون وعن الدين وعن اللغة وعن أي شيء آخر. الجامع الوحيد بين جميع هؤلاء هو التسامح، والحوار النزيه بين الثقافات، والجدل اعتمادا على الحجج والأدلة، والتباري في الدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة”. وحول عبد الجليل لحجمري، أمين سر أكاديمية المملكة، الذي طاف به في مختلف أجنحتها، كتب المصباحي: “هو رجل هادئ وقور، بتلك الهيبة والأناقة التي يتميز بهما الراسخون في الثقافة والمعرفة، والمتشبعون بالأصول الملكية”. وعن شاعر شفشاون عبد الكريم الطبال كتبت “الرحلة المغربية” أنه اختار “العيش والكتابة في الصمت والعزلة” بمسقط رأسه، بعيدا عن المدن الكبرى، و”في كل قصيدة يحتفي بنفسه متأملا العالم من حوله بروح المتصوف المتوحد بنفسه، متوقفا عند الأشياء البسيطة التي قد لا ينتبه لها عامة الناس، وقد لا يبالي بها الشعراء المتعجلون الذين يعتقدون أن الشعر معني فقط بكل ما هو ظاهر وبارز وفارض وجوده على الناس أجمعين”. ومن بين ملاحظات الكتاب عن تغير الزمان الذي يجعل النفَس غير النفس، ولو كان المكان هو المكان: “لا شيء مما كنا نرى وما كنا نسمع يشي بأن تلك الصخرة كانت بابا لما يسميه المؤرخون العرب “فتح الأندلس”. لذلك، كتبت على ظهر بطاقة بريدية لصديق يقيم في باريس: لا شيء يدل على أنه مرة من هنا. أقصد طارق بن زياد”. ثم علق: “من أفظع البلايا التي ابتلي بها العرب هو تقديسهم لماضيهم، وافتخارهم بـ”أمجادهم الغابرة”، وافتتانهم بالأساطير والأوهام. ونتيجة كل هذا أنهم فقدوا القدرة والجرأة على النظر إلى ما يسم واقعهم وحاضرهم من محن ومصائب وأمراض خطيرة، جعلت منهم أمة مشلولة الإرادة، عاجزة عن التحكم في مصيرها، وعن صد المخاطر التي تترصدها من كل جانب”. النفس الذي كتبت به هذه الفقرة يحضر في أجزاء أخرى من الكتاب؛ من بينها تعليق المصباحي على قراءة ابن خلدون، عربيا: “العودة إلى ابن خلدون تفترض ألا ندرس فكره لإقناع أنفسنا، وإقناع الآخرين الذين أصبحوا أسياد عالم اليوم بأنه كان لنا في القديم مفكرون عمالقة بفضلهم أشعت حضارتنا على العالم، وإنما لكي يكون هذا الفكر مضيئا لنا في عتمة أيامنا الحاضرة، ومحرضا إيانا على بذل المزيد من الجهد لكي يكون فكرنا المعاصر فكرا خلاقا لا فكرا ناقلا، فكرا متحركا لا فكرا جامدا”. ومن بين ما يختص به الكتاب نشرُ رسالة للمؤرخ عبد الله العروي، تفاعل بها مع أسئلة مجلة “فكر وفن” الألمانية التي كان حسونة المصباحي آنذاك سكرتير تحريرها، وكانت رئيسة تحريرها أردموته هيللر، ومن بين ما يقوله فيها إن معضلات “التحولات في المجتمعات العربية” تعود إلى “معضلة واحدة ناتجة عن الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع عصري. الانتقال يفسخ ويمحو كل الموروثات على جميع المستويات، فتتأثر كل علاقات الأفراد والجماعات بسبب انعدام مقاييس سنقف عليها. لا غرابة أن تكاثرَ واشتداد النزاعات الطبقية، الفئوية، القبلية، الدينية، العرقية، تعجز كل الإرادات والنوايا الحسنة عن إخماده. في هذا المناخ تعمل التأثيرات الخارجية، وجميعها تزيد في حدة التناقضات. الأزمات مؤشرات الانتقال، ولن تخمد إلا بانتهائه، أي بانتصار العصرية على التقليد المتحضر”. وشرح العروي تصوره للمعاصرة التي تعني “نهاية المطلقات من أي نوع كانت. والأصالة لا تتعايش معها إلا في شكل فلكلور. المعاصرة إما أن تقبل كليا وإما تُرفض. وبما أن غالبية الأنظمة العربية الحالية متأرجحة فإنها تسبب في تكاثر ودوام الأزمات”. وفي رسالة سنة 1987 ذاتِها، ذكر عبد الله العروي أن “مساهمة المثقف العربي في التغيير، سلبية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. والسبب هو نوعية المثقف المتخرج من الجامعات المحدثة… أفقه ضيق، ومعلوماته ناقصة عن التاريخ العام. يعرف التناقضات الأجنبية بواسطة وسائل الإعلام التبسيطية. ولا أدل على هذا الكلام الذي لا ينتهي عن الأصالة والمعاصرة. والمتناول العادي للموضوع لا هو أصيل ولا يفهم معنى المعاصرة”.
- الإعلانات -
#التونسي #المصباحي #يتذكر #المثقفين #والشعراء #وأوهام #إيديولوجيا #البوليساريو
تابعوا Tunisactus على Google News
- الإعلانات -
