الحراك السعودي – الإماراتي و’التانغو’ الخليجي

لم يعهد العالم، التحرك الخليجي السريع خلال عشرات العقود، كما في العقد الأخير.

 

“ماذا يجري في بلادكم؟”، يسألني صحافيون ودبلوماسيون وخبراء في الشأن العربي في المؤتمرات واللقاءات التي تجمعنا. يقولون: “تعوّدنا من دول الخليج الرقص الهادئ على إيقاعات تقليدية معروفة، وتعوّدنا من السعودية أكثر التزاماً بالنمطية، باعتبارها القاطرة القائدة، التي لا تغيّر مسارها ومحطاتها وجداولها وحتى حمولتها بسهولة، بحيث نضبط ساعتنا عليها. ولأنه، كناقلة النفط، لا يصح لها “حركياً” ما يصح لغيرها من اليخوت، والزوارق السريعة. اليوم، لم يعد في الإمكان التنبؤ بالحركة المقبلة، فالسرعة باتت حاكمة، والتغيير مبدأ، والحزم والعزم عنوانان أساسيان.

 

 

الخليج المحافظ

ألفنا كوابح السياسة السعودية والخليجية التي تبطئ اندفاع القادة “الثورجيين” وتهدّئ من توترهم وترشّد تعجّلهم. ففي وقت ملأ القوميون والبعثيون واليساريون دنيا العرب شعارات ووعوداً وعهوداً، وتحريضاً على الثورة والتغيير، وجاء العسكر بالانقلابات والجمهوريات والدساتير التقدمية، كان الخليج يقاوم المد “الهادر والثائر”، ويلتزم السياسات المحافظة، المتأنية، والمتدرجة.

 

وعندما كانت القيادات الشعبوية تدعو الجماهير الى الكفاح المسلح “لتحرير الأرض والدفاع عن العرض”، كان الملوك والأمراء والشيوخ يدعمون دول المواجهة والفلسطينيين بالمال والدبلوماسية والتحركات المؤيدة في المنظمات الدولية، ولا يتورطون في المواجهات العسكرية والعلاقات السرية مع الأنظمة والأحزاب الثورية، عربية كانت أم دولية.

 

 

الملكية المحافظة

أما على الصعيد الاجتماعي، فقد كان الخليج، وبخاصة السعودية، الأكثر محافظة في برامجها التنموية. فقد ركزت على مشاريع البنية التحتية في مجالات حيوية كالتعليم والصحة والمواصلات والكهرباء والزراعة والصناعة والخدمات البلدية. وتحفظت تجاه المشاريع السياسية البرّاقة، والحريات الاجتماعية والمؤسسات الديموقراطية.

 

كما مالت في تحالفاتها العربية الى الأنظمة المحافظة، وبخاصة الملكية، وفي شراكاتها الدولية الى البلدان الإسلامية والآسيوية والغربية. وتباعدت عن المعسكر الشرقي الذي قاده الاتحاد السوفياتي، وعن الصين الشيوعية. ووقفت في كثير من الأحيان على جبهة الصراع مع تلك المعسكرات، كما في أفغانستان والبوسنة وخلال الحرب الباردة.

 

 

الخليج الجديد

هذه السعودية، وهذه بلدان الخليج التي عرفناها في القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي. أما اليوم، فنكاد لا نتعرف إليها، وفقدنا القدرة على التنبؤ بسياساتها وتحركاتها وردود فعلها. تطورات متسارعة على كل الأصعدة، السياسية والمجتمعية والتنموية. شعارات تقدمية خلّابة. طموحات تبدو من صنف الخيال العلمي. خصومات ومصالحات مع دول إقليمية ودولية كبرى، تكاد تحدث بين يوم وليلة، كالتطبيع مع إسرائيل، والتصالح مع تركيا والانفتاح على سوريا، والحوار مع إيران، والتعاون الاستراتيجي مع العراق، ومدافعة الخصوم في ليبيا وتونس والسودان والصومال، وتبني حوار الحضارات والأديان.

 

ميل الى الشرق من الهند والصين إلى روسيا وأوكرانيا، شمل للمرة الأولى في التاريخ صفقات عسكرية وتعاوناً أمنياً ومناورات مشتركة. يقابله جفاء مع الغرب بلغ حد التحدي والمواجهة مع أميركا وكندا والاتحاد الأوروبي، كما يحدث اليوم في أسواق النفط والاتفاق النووي مع إيران وساحات القتال في اليمن والعقود التجارية الكبرى.

 

 

الانفتاح المجتمعي

ومجتمعياً، هناك تمكين المرأة والشباب، الانفتاح السياحي على العالم، ومهرجانات رياضية وفنية وتجارية لا تخطر ببال. هناك فعاليات “موسم الرياض، معرض الكتاب، شتاء طنطورة، فورمولا جده، رالي دكار – السعودية، إكسبو 2020 دبي، كأس العالم في قطر، صيف صلالة، مهرجانات الكويت، فعاليات البحرين”، والقائمة تطول. ولم تعد المؤتمرات والمسابقات الدولية ومشاريع الترفيه والسياحة والاستثمارات العالمية الكبرى مقتصرة على الإمارات، بل صارت أكثر وأكبر في أكثر الدول محافظة، السعودية. واليوم، لم تعد القاهرة وبيروت ودمشق وأصيلة وحتى إسطنبول ملتقى الحضارات والمهرجانات والفنون والمناسبات العالمية، بل عواصم الخليج.

 

كل هذا وأكثر، بهذه السرعة وأكثر، بهذا الحجم وأكبر، يحدث في بلدانكم، ويستقطب أنظار ومشاركة واستثمارات العالم كله، وليس الاقليم فقط. لماذا وكيف؟”.

 

 

أسباب التغيير

هذا ملخص الأسئلة التي سمعتها، وعليها أجيب، أن الخليج تغيّر بالفعل، ولهذا التغيير أسبابه. إذ يقود البلدان الخليجية اليوم جيل شاب في الثلاثين، ويمثل نحو ثلثي السكان. لم يشهد هذا الجيل معظم أحداث القرن الماضي وتحولاته، بحروبها العظمى، ونكساتها وثوراتها وتقلباتها. ولذا لا يرى نفسه مسؤولاً عن خسائر وأخطاء الجيل السابق، فلا هو من قاد ثورات وانقلابات وحروباً أهلية أعادت بلدانها الى الوراء، ولا هو من خسر في “نكسة” واحدة، القدس وفلسطين والضفة والجولان وغزة وسيناء، ولا هو من غزا الكويت ففقد العراق، ودفع المال والدم والدهر من أجل الوحدة العربية، فتقسّمت أوطاناً، وهيمن الفرس والترك والروس على الهلال الخصيب.

 

جيل الثورة الرقمية، و”غوغل”، وشبكات التواصل الاجتماعي بات يعرف عبر قنواته المباشرة ما يجرى حوله، ويقرر بنفسه ما يريد لوطنه وحياته ومجتمعه. ولأنه تسلم مقاعد القيادة الحكومية والأهلية، السياسية والإدارية والاقتصادية، فقد اختار الطرق السريعة، والمراكب السريعة، والزمن السريع.

 

ولأنه واقعي وعملي و”وطني” أولاً وأخيراً، فقد تخلى عن التزامات الأجيال السابقة تجاه القضايا القومية، والتحالفات الدولية، والقيم التقليدية، وخطّ مساراً جديداً يعتمد المصلحة الذاتية فوق كل اعتبار. فمشاريعه تركز على ما ينفع المواطن، وعلاقاته مع الأشقاء والأصدقاء تقوم على المشاركة المصلحية، وأولوياته الوطنية، وطموحاته المستقبلية.

 

 

اللحظة الخليجية الجديدة

ولأن جيل الألفية الثانية يدرك أنه يعيش اللحظة التاريخية المناسبة، تلك التي يملك فيها قراره وقدراته، ويتوافر لها المال والبنية التحتية والفوقية والعلاقات الدولية، والموارد البشرية التي انتجتها عقود من البرامج التعليمية الداخلية والبعثات الخارجية، والخبرات العملية، فقد قرر أن يتخلى عن حالة التأني والمداهنة والعمل القومي المشترك، وأن يتحرك بطريقة فردية أو ثنائية أو جماعية، بحسب الظرف والتوافق والحاجة، وأن لا يبالي بمشاعر الآخرين واحتجاجاتهم وحتى مصالحهم، إن تعارضت مع مصالحه. وأن يعطي بقدر ما يأخذ، مقتنعاً أن فضله سابق، ولا فضل ولا دالة ولا حق لأحد عليه.

 

وكما في رقصة “التانغو”، تعلّم الخليجي أن يتحرك بمرونة، ورشاقة، ومواكبة لريتم الحياة. كما تعلّم أن يقود ولا يُقاد، يبادر ويشارك، يقارب ويباعد، يتقدم ويتأخر، يواجه ويلتف، وينهي الرقصة مع من يشاء كما يشاء، عندما يشاء.

 

هذا هو الزمن الخليجي الجديد، وهذه هي اللحظة الخليجية الجديدة، وهذا هو خيار الجيل الجديد. نقطة على السطر.

 

 

 

#الحراك #السعودي #الإماراتي #والتانغو #الخليجي

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد