“الربيع  العربي” في تونس: بين المكاسب الديمقراطية والانتكاسات السياسية والاجتماعية مسار لم يكتمل

تونس-“القدس العربي”: يعيش التونسيون هذه الأيام على وقع الذكرى العاشرة لثورتهم التي انطلقت أحداثها بين17 كانون الأول/ديسمبر 2010  و14 كانون الثاني/يناير 2011 وأدت إلى إسقاط نظام بن علي، قبل ان تنطلق موجة “الربيع العربي” إلى دول عربية أخرى سواء في المغرب العربي أو مشرقه. وتاهت كل تلك الثورات أو الانتفاضات العربية في دوامة التجاذبات والصراعات الداخلية والخارجية وتحولت إلى حروب أهلية مدمرة وقاسية كما حصل في سوريا وليبيا واليمن. وكانت تونس طيلة السنوات الماضية الاستثناء العربي الوحيد في محيط معقد يعجّ بالأزمات السياسية والتخبطات الأمنية والعسكرية. ولعل السؤال الذي ظل يطرح نفسه هو هل تحققت أهداف الثورة التونسية بعد مرور كل هذه السنوات؟
لقد طالب أبناء الخضراء بديمقراطية تتسع لأحلامهم ولإرادتهم التي تغنىّ بها يوما ما شاعرهم أبي القاسم الشابي: “إذا الشعب يوما أراد الحياة …فلا بد أن يستجيب القدر” وكأنه كان يتوقع ان تنفجر من تحت رماد الغضب، ثورة شعبية عارمة تطيح بواحدة من ديكتاتوريات المنطقة. ولكن رغم النجاحات العديدة التي تحققت، من انتقال ديمقراطي سلمي وصعب وانتخابات حرة أتت بطبقة سياسية جديدة إلى الحكم، ودستور جديد يتناغم مع مطالب الثورة فسح المجال أمام الحريات الفردية وضمان حرية الرأي والتعبير والصحافة وغيرها من المكاسب، إلا ان هذا المسار عرف تعثرات عديدة، وأخفق في نواح عدة، فالتونسيون الذين حلموا بالتخلص من الديكتاتورية وفساد الحكم الأوحد وجدوا أنفسهم رهينة الصراعات السياسية وتخبط الأحزاب وفوضى التجاذبات والانقسامات التي تحول البرلمان في باردو إلى ساحة لها، وهو ما كان له وقع سيء لدى جلّ التونسيين الذين يشعرون اليوم بالأسى والخيبة لمآل ثورتهم المنقوصة وهم يراقبون تخبطات نخبتهم السياسية التي اختاروها بصناديق الاقتراع وأوصلوها للحكم. ويعتبر بعضهم ان ثورتهم سرقت ولم تحقق أهدافها في العدالة والحرية وفي محاكمة منظومة الفساد وإرجاع الأموال المنهوبة. كما ان هناك اليوم صراعا صامتا وعميقا لكنه بدأ يخرج إلى العلن وتسلل ببطء إلى أجهزة الدولة، وذلك بسبب “شخصنة” هذه التجاذبات السياسية التي كانت لها ترددات وأصداء خطيرة عطلت العمل الحكومي والمؤسساتي، وذلك خلال حقبة الباجي وخلافه مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد واليوم أيضا يتكرر السيناريو بين الرئيس قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي.
لقد بات التونسيون أمام سلطة جديدة بثلاثة رؤوس تتصارع على النفوذ والصلاحيات أضف إلى ذلك ان المنظومة القديمة تمترست وراء الإدارة وكأن الشعب غيّر فقط رأس النظام لكن المنظومة ظلت موجودة ومترسخة في إطار ما سمي بطيّ صفحة الماضي والمصالحة خشية من تكرار السيناريو المر الذي شهدته باقي دول الربيع العربي.
نجاح ديمقراطي ونقائص
 ليس صدفة ان توصف تونس اليوم بأنها الإستثناء في بلدان الربيع العربي، باعتبارها تمكنت من النجاح في عملية انتقالها الديمقراطي رغم العثرات العديدة ودون أن تنساق إلى الفوضى والإقتتال الأهلي. فقد جنح فرقاؤها السياسيون إلى الحوار في أحلك الفترات والأزمات، وتم الحوار برعاية محلية ودون وصاية خارجية من أي طرف كان وذلك من خلال اضطلاع منظمات المجتمع المدني العريقة يتقدمها الاتحاد العام التونسي للشغل، بدورها التاريخي على الوجه الأكمل لإنقاذ البلاد.
وبالإضافة إلى وعي الطبقة السياسية التونسية بخطورة الإنزلاق إلى الحرب الأهلية، توجد في تونس مؤسسات راسخة ساهمت في ضبط الأوضاع والحفاظ على الأمن والاستقرار خلال المراحل الانتقالية الصعبة. فهناك إدارة عريقة تستطيع أن تعمل من تلقاء نفسها حتى في حالة الفراغ في السلطة، ومؤسسة عسكرية حقيقية حرص الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على أن يكون ولاؤها للوطن دون سواه، وليس للزعيم الأوحد بما في ذلك بورقيبة نفسه، ورحل بن علي وقبله بورقيبة وبقي ولاء هذه المؤسسة لتونس وهي تلتزم اليوم الحياد في صراعات السياسيين فيما بينهم.
وفي تونس أيضا مؤسسة أمنية تأتمر بأوامر من هو في الحكم بقطع النظر عن انتمائه السياسي أو الفكري أو العقائدي، ويتغير النظام وتبقى هذه المؤسسة تقوم بدورها على الوجه الأكمل شأنها شأن القضاء رغم الهنات التي تشوب هاتين المؤسستين. هذا بالإضافة إلى مؤسسات أخرى عديدة ساهمت في صمود البلد وحفظت استقراره وحمته من التفكك سواء في مرحلة فراغ السلطة بعد الإطاحة بنظام بن علي أو خلال المرحلة الانتقالية التي طالت بعض الشيء.
انتخابات حرة وشفافة
ولعل ما يحسب لتونس أنها رسخت التقاليد وراكمت النجاحات في تنظيم الانتخابات الحرة والنزيهة سواء تعلق الأمر بالمجلس التأسيسي في سنة 2011 أو الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2014 وسنة 2019 بالإضافة إلى الانتخابات المحلية والمجلس الأعلى للقضاء. وحصل نتيجة لذلك التداول السلمي على السلطة بين أربعة رؤساء للجمهورية وثمانية رؤساء حكومات خلال عشر سنوات من البناء السياسي للتأسيس لأول ديمقراطية عربية غير طائفية وغير محروسة من مؤسسة ملكية أو عسكرية.
وحتى وفاة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي وهو يمارس الحكم لم تؤثر سلبا على استقرار البلد، حيث تم تطبيق الدستور بسلاسة وانتقلت السلطة إلى رئيس مجلس النواب محمد الناصر الذي أصبح مؤقتا رئيسا للجمهورية إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية. وتم بالفعل إجراء هذه الانتخابات، وعلى دورتين كالعادة، وانتقلت السلطة مجددا بطريقة سلسة إلى الرئيس المنتخب الجديد قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري بالجامعة التونسية، ليصبح الرئيس الثامن للجمهورية التونسية والرابع في ظل الجمهورية الثانية. وكان لهذا الانتقال السلس للسلطة مدعاة فخر للتونسيين بديمقراطيتهم الوليدة.
كما نجح التونسيون من خلال المجلس الوطني التأسيسي في كتابة دستور جديد وذلك خلال ثلاث سنوات، وأجريت على أساسه الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 والانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019 والانتخابات المحلية وانتخابات المجلس الأعلى للقضاء. وتضمن هذا الدستور جملة من الحقوق والحريات العامة والخاصة اعتبرت ثورة حقيقية تضاف إلى الثورة التي حصلت سنة 2011 في مجال تأسيس الأحزاب والجمعيات والتي لم يعد تأسيسها بحاجة إلى الترخيص من وزارة الداخلية مثلما كان الأمر في السابق، إذ يكفي اليوم إعلام رئاسة الحكومة من خلال رسالة مضمونة الوصول بوجود هذه الجمعية  وإشهارها لاحقا في الجريدة الرسمية دون الحاجة إلى ترخيص.
لكن دستور سنة 2014 الذي يعتبر الرابع في تاريخ البلاد، يتعرض اليوم إلى انتقادات واسعة تتعلق بشكل النظام السياسي الذي تم إقراره وهو نظام هجين، شبه برلماني، احتار في تصنيفه فقهاء القانون الدستوري، وخلق لخبطة على مستوى السلطة التنفيذية على وجه الخصوص. فخلافا لباقي الأنظمة البرلمانية ينتخب رئيس الجمهورية في النظام التونسي الجديد بالإقتراع العام والمباشر، ويعطي الانتخاب المباشر من الشعب للرئيس قيمة اعتبارية هامة جدا تعادل قيمة أعضاء البرلمان مجتمعين، يدركها ويؤكد عليها فقهاء القانون الدستوري، لكن رغم أهميته التي يستمدها من الشعب مباشرة فإنه محدود الصلاحيات أسوة بالرئيس غير المنتخب من الشعب في النظام البرلماني. فساكن قرطاج الحالي، كما الأسبق قائد السبسي، لديه شعور بالضيم بما أنه صاحب الشرعية الكبرى، لكن الصلاحيات التنفيذية الأساسية هي بيد رئيس الحكومة الذي لم ينتخبه الشعب ولا ينتمي بالضرورة إلى الحزب الأول الفائز بالانتخابات التشريعية.
كما خلق هذا النظام السياسي حالة من عدم الاستقرار باعتباره يفرض نصابا كبيرا حتى تنال التركيبة الحكومية تزكية البرلمان وهو ما يجعل الحكومة، التي تتشكل من ائتلاف واسع لضمان تزكيتها، سرعان ما تنهار بمجرد انسحاب أحد الأحزاب. ويرى البعض ان هذا الدستور كان على مستوى الشكل يعبّر بالفعل عن مطالب الثورة التونسية بالحريات والحقوق ولكنه على مستوى التطبيق واجه صعوبات عديدة حتى الآن مما عمّق أكثر الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد.
الانتقال الاقتصادي والاجتماعي
 وتبقى معضلة تونس الأساسية هي الدمار الاقتصادي الذي طال البلد منذ عشر سنوات نتيجة لعدم الاستقرار السياسي ولكثرة الاضرابات والسياسات الخاطئة التي تم انتهاجها منذ الثورة إلى اليوم. فقد أصبحت الأرقام الاقتصادية التي تم تسجيلها خلال السنة التي أطيح فيها بنظام بن علي، مراجع يطمح الجميع في العمل على تحقيقها في مرحلة أولى للإنطلاق لاحقا لتحقيق ماهو أفضل.
فالصادرات تراجعت نتيجة لتوقف الإنتاج الطاقي والمنجمي والصناعي وتهميش القطاع الفلاحي وذلك بسبب الاضرابات والمد الثوري “الربيعي” الذي لم ينقطع، وهو ما اضطر الدولة إلى استيراد عديد المواد التي كانت تنتجها. وزاد الطين بلة الشلل الذي أصاب القطاع السياحي بسبب العمليات الإرهابية التي شهدها البلد خصوصا في سنوات الثورة الأولى.
وساهم كل ذلك في تراجع مدخرات البلاد من العملة الصعبة وهو ما ساهم بدوره في تراجع سعر الدينار التونسي وانحداره إلى مستويات قياسية لم تعرفها تونس حتى في أحلك فترات تاريخها الحديث. كما تسبب كل ذلك في تراجع التصنيف الإئتماني السيادي الذي تقوم به الوكالات العالمية المختصة وتسبب أيضا في كثرة التداين من الخارج رغم أن للبلد موارده الكافية التي تتناسب وحجمه السكاني المحدود بفضل سياسة تحديد النسل التي فرضت منذ الاستقلال.
وتسببت الأزمة الاقتصادية بدورها في أزمة اجتماعية خانقة حيث ارتفعت نسب البطالة والفقر وانعدمت التنمية ليس فقط في الجهات الداخلية بل حتى في المناطق التي كانت تصنف على أنها محظوظة. والسبب في ذلك أن الطبقة السياسية التي حكمت في السنوات العشر الأخيرة تجاهلت مطالب الشباب العاطل والمناطق المحرومة التي انتفضت على نظام بن علي وهي بالأساس مطالب اجتماعية ولا علاقة لها بالأجندات السياسية.
والمفارقة اليوم انه في الذكرى العاشرة للإطاحة بنظام بن علي، تشهد شوارع العاصمة التونسية مشاهد الاحتجاجات نفسها وكأن شيئا لم يتغير، فرغم ان الثورة حققت عديد الإنجازات في المجال السياسي وفيما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات، إلا انها على المستويين الاجتماعي والاقتصادي فشلت فشلا ذريعا ولم يستجب هذا “الربيع التونسي” لمطالب التونسيين بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجهات في التنمية. ففي الوقت الذي كانت فيه مؤسسات الدولة منهكة ومتخبطة في انتقالها الديمقراطي كان هناك جيل جديد ينمو ويترعرع في ظل وضع اقتصادي واجتماعي صعب نتجت عنه مطلبية كبيرة واحتجاجات عمت البلاد هدأت تارة ثم عادت لتنفجر تارة أخرى.
لقد تحول اليوم هذا الجيل الجديد إلى قنبلة موقوتة ويمكن في أية لحظة ان تستقطبه الجماعات الإرهابية أو أن يرتمي في أحضان مراكب الموت والهجرة غير النظامية التي شهدت تصاعدا كبيرا طيلة الأعوام الماضية. فتونس الخضراء لم تعد تتسع لأبنائها وأحلامهم المؤجلة، ونزيف هجرة الشباب، بمن فيهم الكفاءات، يتواصل وسط حالة من اليأس والإحباط.
فالمحرومون والمهمشون الذين عادوا إلى الشارع مؤخرا للمطالبة بتحسين أوضاعهم بعد أن تجاهلتهم الطبقة السياسية في السنوات الأخيرة، طيلة عقد كامل من الزمان، لا يعنيهم ما تحقق في مجال البناء الديمقراطي وٌحقوق الإنسان والحريات، ولا يعنيهم نيل المنظمات التونسية التي رعت الحوار الوطني لجائزة نوبل السلام. لقد دقوا ناقوس الخطر وأنذروا وأكدوا على أنه لا مجال للحديث عن ربيع تونسي والبطون في الأحياء الفقيرة بالمدن الكبرى والجهات الداخلية خاوية.  فاليوم لا تزال شرائح تونسية واسعة متعطشة للكرامة والعدالة  والمساواة الاجتماعية التي لم تتحقق، وكأن الثورة ابتلعت أبناءها.

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد