- الإعلانات -

- الإعلانات -

الشباب المهمش في تونس قنبلة موقوتة تغذي الإجرام والإرهاب والهجرة غير النظامية

منذ 10 ساعات

حجم الخط

تونس-»القدس العربي»:  تشير الأرقام الرسمية في تونس إلى أن البلد، الذي راهن منذ استقلاله على التعليم ورصد له ثلث ميزانية البلاد، يشهد ومنذ الثورة في 14 كانون الثاني/يناير 2011 انقطاع 100 ألف طفل سنويا عن التعليم لأسباب مختلفة. وهو رقم مفزع باتفاق أغلب التونسيين خاصة وأن هؤلاء المنقطعين الذين بلغ تعدادهم اليوم مليون طفل في عشر سنوات من الثورة، لا تتم متابعتهم ولا أحد يبحث عن مصيرهم بعد الانقطاع المدرسي.
ولعل من أهم أسباب هذا الانقطاع تدهور المستوى المعيشي وانحدار القدرة الشرائية للتونسيين وعدم قدرة العائلات التونسية على الانفاق على أبنائها لمواصلة تعليمهم في أحسن الظروف. كما أن الوضع الأمني المتدهور بعد الثورة وانتشار الإرهاب في الجبال والجرائم البشعة دفع بالأهالي في المناطق الريفية والنائية إلى منع أطفالهم من الذهاب إلى المدارس خوفا عليهم من المخاطر.كما أن التعليم لم يعد مبهرا في تونس ويتمتع بتلك القيمة الاعتبارية، ولم تعد تحيط به تلك هالة من القداسة باعتباره وسيلة للارتقاء الاجتماعي مثلما كان عليه الحال في السابق، بل أصبح منفرا لا يلبي الأحلام والطموحات بعد أن تحول خريجوه وأصحاب شهائده إلى عاطلين عن العمل. فلم يعد هناك فرق إذن بين عاطل عن العمل صاحب شهادة جامعية وعاطل عن العمل دون شهادة فكلاهما يعاني الأمرين لتحصيل لقمة العيش.
نزوع إلى الانحرافتجبر قسوة الحياة أعدادا لا بأس بها من هذا الشباب المهمش على الانحراف والتحول إلى مجرمين يستهلكون المخدرات والحشيش وحبوب الهلوسة ويعتدون على الممتلكات العامة والخاصة ويمارسون العنف ضد الآخرين ويذهبون إلى حد سفك الدماء. وقد انتشرت الجرائم الفظيعة والبشعة في السنوات الأخيرة بشكل لافت من قبل هذه الفئة الشبابية التي يغيب بعضها عن الوعي بفعل المواد المخدرة عند ارتكاب هذه الأفعال المجرمة والوحشية في أغلبها. ولعل غياب دور الشباب والثقافة، التي كان يقبل عليها الشبان التونسيون في الماضي، عن لعب دورها في السنوات العشر الأخيرة، ساهم في جنوح هذا الشباب اليافع إلى الانحراف. كما أن اندثار الرياضة المدرسية والجامعية التي كانت حاضنة للتلاميذ والطلبة يتم من خلالها اكتشاف المواهب التي تزود بها الرياضة المدنية وأندية النخبة الرياضية، ساهم في مزيد تأزم الأوضاع بما أن الرياضة كانت إحدى البدائل عن الفشل الدراسي.خطر الإرهابوتستغل الجماعات التكفيرية الشباب المهمش المنقطع عن التعليم لتجنيده وتوظيفه لتحقيق أجنداتها في الداخل ولتسفيره أيضا للقتال في بؤر التوتر في الخارج خدمة لجهات أجنبية لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالمصلحة التونسية. فأجهزة الاستخبارات الأجنبية المرتبطة بعلاقات مع زعماء التنظيمات الإرهابية المحلية تدرك جيدا أن في تونس بيئة خصبة للتكفير والتطرف وبالامكان استغلالها من خلال التغرير بهذا الشباب واستعماله كحطب لمعارك لا ناقة ولا جمل لتونس فيها ولاعلاقة لها بالدين من قريب أو من بعيد.ويعتقد جل هؤلاء المغرر بهم ومن المجندين في الجماعات الإرهابية أنهم «يجاهدون في سبيل الله» وأنهم يطبقون تعاليم الدين ويقاتلون الكفار وأعداء الإسلام، وأنهم مشروع شهادة وتنتظرهم الجنة حيث الحور العين وكل ملذات الدنيا التي حرموا منها. وينتمي أغلب هؤلاء المغرر بهم إلى محدودي التعليم أو إلى أولئك الذين درسوا في فروع تعليمية مناهجها لا تعتمد التفكير الحر والنقد، ولا تدفع باتجاه عدم الأخذ بالمسلمات والإيمان بالنسبية.
الهجرة السرية
وتستقطب الهجرة السرية عددا هاما من هؤلاء المهمشين الحالمين بحياة أفضل في جنان الضفة الأخرى من المتوسط حيث القارة العجوز التي لا ترحب بهم وتغلق الأبواب بوجوههم وتحول دونهم وتحصيل قوتهم. في حين ترحب هذه القارة بأبناء جلدتهم من المتفوقين دراسيا وأصحاب الشهائد العلمية في اختصاصات محددة على غرار الطب الذي تقدم للمنتسبين إليه من قبل بلدان أوروبية الحوافز للعمل والاستقرار سواء في ألمانيا أو في فرنسا أو في غيرهما.لذلك ترحل قوارب الموت يوميا من السواحل التونسية باتجاه إيطاليا محملة بهذا الشباب المهمش وبغيره في ظاهرة تعتبر حديثة وارتبطت بحدثين تاريخيين، أولهما دخول إيطاليا إلى منطقة اليورو وفرضها للتأشيرة على التونسيين، وثانيهما تدهور المستوى المعيشي في تونس خلال النصف الثاني من فترة حكم زين العابدين بن علي وخلال العشر سنوات التي تلت سقوط نظامه، أي سنوات الثورة. وتشير الأرقام إلى أن قرابة الـ100 مهاجر تونسي غير شرعي يصلون يوميا إلى السواحل الإيطالية سالمين، وذلك دون الحديث على من لم يسعفهم الحظ ليقعوا في قبضة السلطات البحرية التونسية أو يغرقوا في أعماق المتوسط.اضطرابات عنيفةكما يعبر بعض هؤلاء المهمشين عن أنفسهم من خلال المظاهرات والاضطرابات الاجتماعية فيهشمون ويعتدون على الممتلكات العامة والخاصة وينهبون «المغازات» والمحال التجارية الكبرى ويحرقون الإطارات المطاطية ويشتبكون مع قوى الأمن ويرشقونهم بالحجارة والزجاجات الحارقة. ويرد عليهم الأمنيون بالغازات المسيلة للدموع وبالهراوات في مشاهد تثير الكثير من الأسف والأسى على حال تونس اقتصاديا واجتماعيا بعد عشر سنوات من الثورة التي اعتقد أن البلد سيعبر معها إلى بر الأمان ويتحول إلى جنة أرضية.ومن بين هؤلاء أيضا من يحتج بطريقة سلمية وبتعبيرات مختلفة سواء في الشارع أو في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الحكومات المتعاقبة لم تستجب لمطالبهم ولم تهتم لأمرهم طيلة السنوات الماضية. ولعل ذلك ما جعل بعضهم يعبرون بعنف مؤخرا للفت الانتباه بعد أن فشلت التعبيرات السلمية في ايصالهم إلى المبتغى وفي تحقيق المراد.قنابل موقوتةولا ينتمي الشباب المهمش فقط إلى الجهات الداخلية الأقل تنمية في البلاد على غرار مدن الشمال والوسط الغربي، بل يتواجد بكثافة أيضا في المدن الكبرى وتحديدا في أحيائها الفقيرة. فقد اشتهرت في وسائل الإعلام المحلية والأجنبية أحياء تونسية فقيرة ومهمشة على غرار حي التضامن وحي هلال والكرم الغربي الذي أشيع أن سكانه كانوا يعدون العدة للهجوم على القصر الرئاسي بقرطاج قبيل مغادرة بن علي للبلاد يوم 14 كانون الثاني/يناير سنة 2011.لذلك يرى البعض في كل مهمش من هؤلاء قنبلة موقوتة في حد ذاته، فسواء انخرط في الإجرام أو انضم إلى الجماعات الإرهابية أو امتطى قوارب الموت مهاجرا سرا باتجاه القارة العجوز، أو انتفض مخربا احتجاجا على الأوضاع المزرية، فهو خسارة للبلد. فالشباب هو القوة الحية في المجتمع وتهميشه هو إهدار للطاقة وسوء توظيف لها، والبحث عن حلول جذرية لدمجه في الحركة الاقتصادية والنهوض به اجتماعيا ضرورة لا محيد عنها وعلى الحكومات الحالية والحكومات المقبلة الالتزام بها.
مقاربات إصلاحيةوفي هذا الإطار يرى محمد الجويلي الرئيس السابق لمرصد الشباب والكاتب والباحث في علم الاجتماع في حديثه لـ «القدس العربي» أن ماهو أكيد هو أن هناك صنفا من الشباب التونسي يعيش اليوم حالة احباط متواصلة. ويأتي الاحباط، برأي محدثنا من الفوارق التي يعيشها ويتمثلها، أي بين ما يعيشه فعلا وبين الفرص المتاحة له والتي لا يمكنه بلوغها لأنه يعتقد أنها غير مممكنة له.ويضيف الجويلي قائلا: «يتحول هذا الاحساس إلى نقمة على الذات أولا وعلى الآخرين ثانيا. فيبدأ هذا الشاب بتدمير نفسه أولا وذلك من خلال أشياء كثيرة على غرار تناول المخدرات والانخراط في شبكات الجريمة والانقطاع المبكر عن التعليم والتواصل مع شبكات الدعارة والانضمام إلى جماعات الإرهاب والهجرة السرية وغيرها. وتصبح لدى هذا الشاب المهمش بوصلة واحدة هي السلوكات المحفوفة بالمخاطر والتي تصبح بالتالي ثقافته اليومية وأسلوب عيشه الدائم».ويضيف محدثنا: ربما نحتاج إلى مقاربات أخرى في التعامل مع هذه الظواهر وهي المقاربات الإدماجية، أي إعطاء أكثر ما يمكن لهؤلاء الشباب من فرص جديدة، من خلال الذهاب إليهم والاستماع إلى مشاغلهم ومرافقتهم، وأيضا إبتداع فعل إدماجي غير كلاسيكي واستنباط طرق أخرى في تناول المسائل الشبابية، مع عدم خلق قطيعة مع عوالم هؤلاء الشباب بمعنى الإبقاء على تلك العوالم ولكن بإعادة تمثلها بحيث تكون في الآن ذاته غير بعيدة عنهم وفي نفس الوقت لها جدوى».ومن الحلول التي يقترحها محدثنا أيضا «مقاربة الفرصة الثانية» التي اعتبرها أيضا مقاربة هامة لأنها تمكن الشباب من استعادة زمام المبادرة مع المرافقة المتواصلة.
نحو قوانين جديدةويرى المحامي صبري الثابتي الناشط الحقوقي والسياسي التونسي في حديثه لـ»القدس العربي» أن التهميش الذي عانى منه الشباب التونسي طيلة العشرية الأخيرة لا يجب أن يستمر وإلا فإن الجميع في هذا البلد سيدفعون الثمن. فهناك جيل جديد نشأ دون تعليم، بحسب الثابتي، وذلك بسبب انتشار ظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم بعد الثورة والتي سنجني نتائجها الوخيمة في السنوات المقبلة.ويضيف الثابتي قائلا: «لابد من سن قوانين جديدة تردع الانقطاع المبكر شبيهة بتلك التي سنتها دولة الاستقلال مع الزعيم بورقيبة لإجبار الأطفال على الدراسة وزجر من يجبرون أبناءهم على الانقطاع عن التعليم. كما أن الدولة مطالبة بالتكفل بنفقات تعليم الفقراء وضعاف الحال على غرار ما حصل في بدايات الاستقلال حين كانت تهتم حتى بفطور الصباح في المدارس العمومية.كما حان الوقت لتكف الطبقة السياسية عن العبث والصراعات الجانبية لتلتفت إلى حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بكل جدية بعد أن تحقق الكثير سياسيا وخصوصا على مستوى البناء الديمقراطي. لأنه وباختصار شديد لا معنى لديمقراطية لا تحقق التنمية والرخاء لشعبها ولا تحسن أوضاعه المعيشية وتؤدي بالنهاية إلى عدم الاستقرار من خلال كثرة الحكومات التي لا تعمر طويلا.
معالجة أمنية
وترى الناشطة الحقوقية آمنة الشابي في حديثها لـ»القدس العربي» أن الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة والصدامات التي حصلت بين الشباب المهمش في الأحياء الفقيرة والجهات المحرومة من التنمية أظهرت أن هذا الشباب في واد والطبقة السياسية في واد آخر. فالحكومة لجأت، وبحسب محدثتنا، إلى المعالجة الأمنية ولا يبدو أن لها حلا خارج إطار هذه المعالجة التي تخمد الاحتجاجات لبعض الوقت لكنها لا تعالج الأزمة من جذورها.وتضيف الشابي قائلة: «وتتم المعالجة على مستوى محاربة ظاهرة الانقطاع المدرسي من جهة، ومحاربة الفقر والتهميش من جهة أخرى، مع التفكير في إيجاد آلية للأخذ بأيدي المنقطعين عن التعليم والبحث لهم عن حلول جذرية في إطار منظومة التكوين المهني ربما، ثم تشجيعهم على المبادرة الخاصة أو دمجهم في سوق الشغل. وما لم يحصل ذلك، وبقي التغاضي على حاله، وحافظت الحكومة على ممارسة سياسة النعامة، فإن مصيبة حقيقية ستحل بالبلد وستفلت الأمور من الجميع وسيصعب التدارك ولن يستطيع أحد إيقاف هذا الجرح النازف.كما على الطبقة السياسية أن تكف عن توظيف هذا الشارع المنتفض بالشباب المهمش لتحقيق أجنداتها وتصفية الحسابات مع بعضها البعض في إطار هذه الحرب التي يشهدها البلد بين الرئاسات الثلاث. فالشارع الذي يمكن تحريكه بسهولة بسبب حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي يصعب ضبطه لاحقا ويمكن أن يحصل الانفلات الذي لن ينفع معه الندم.ولعل ما يبعث على القلق أنه وبمجرد أن نجح الأمن في إخماد الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة انقطع الحديث عن هذا الشباب المهمش المنكوب وكأن شيئا لم يكن، وعاد السياسيون إلى سيرتهم الأولى، أي الصراع على المناصب والمواقع الهامة في مفاصل الدولة. وبالتالي يخشى أن تحصل انتفاضة جديدة من قبل هؤلاء الشباب، لا تبقي ولا تذر هذه المرة، ويحصل معها ما لا يحمد عقباه، فالأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات».

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد