الفنّ في زمن الثورة الفلسطينيّة | أرشيف – وكالة مدار نيوز

مدار نيوز، نشر بـ 2022/01/28 الساعة 2:30 مساءً

مدارنيوز

المصدر: «مجلّة مواقف».

الكاتب (ة): كمال بلاطة.

زمن النشر: 1 كانون الثاني 1971.

 

اثنان في المجتمع، لا تهمّ أقوالهما بقدر أعمالهما: السياسيّ، والفنّان. أن يجلس رسّام عربيّ اليوم يتحدّث عن الفنّ بدل أن يرسم، هو كالسياسيّ العربيّ الّذي يصعد منبرًا ويحدّثنا عن تاريخنا المقبل، بينما نحن متمدّدون في فراشنا؛ الحالتان متساويتا الخطورة.

من الأسباب الّتي ساعدت على تخلّف الطاقات الطليعيّة العربيّة، هي الهوّة الّتي أوجدها السياسيّون العرب بين القول والفعل، وكرسّام أرى واجبي في أن أرسم لا أن أتحدّث عن الفنّ، وكذلك أن أتحاشى الوقوع في الخطيئة نفسها الّتي وقع فيها السياسيّ العربيّ. لكنّ طبيعة المرحلة النضاليّة تلزم الرسّام في هذا الزمن أن يكون ناقدًا، فنّانًأ، سياسيًّا، إنسانًا، عاشقًا، ومحاربًا في آن واحد. إنّ مهنة الفنّان الأولى كانت دومًا مهنة واحدة، لم تكن مهنتة الرسم ولا النظم، ولا الخلق؛ كانت مهنته دومًا وقبل كلّ شيء: الإخلاص؛ قمّة الإخلاص، مادّته الخام: الحياة. هنا أسمح لنفسي بالتحدّث عن الفنّ في هذه المرحلة أخذًا بمسؤوليّتي كفنّان، واعيًا الحقيقة الدامية، مجبرًا نفسي على مجابهة وقائعها، سائلًا أن تعذروني في تداول الكلمات معكم بدل الألوان.

 

الفنّ الفلسطينيّ في مرحلة الثورة

عندما أتحدّث عن الفنّ الفلسطينيّ في مرحلة الثورة، أقول إنّ هذا الفنّ لم يره أحد، لأنّه لم يولد بعد. الثورة الشاملة هي الّتي تخلق الفنّ الثوريّ وليس العكس، كما أنّه لا يمكن أن تكون هنالك ثورة سياسيّة بدون ثورة اجتماعيّة، كذلك لا يمكن أن تكون ثورة اجتماعيّة بدون ثورة أخلاقيّة، وأيضًا، لا يمكن أن تكون ثورة أخلاقيّة بدون ثورة فنّيّة. شهداء الثورات وتجّارها عرفوا في أكثر من زمان وأكثر من مكان، الثورة الفلسطينيّة ما تزال برعمًا في طور التكوين. معظم ما تراه من فنّ فلسطينيّ هو عبارة عن فنّ تقليديّ متطفّل على الثورة، وهو ينتمي إلى العالم القديم لأنّه يحمل رؤى تقليديّة، إنّه ظواهر فنّيّة وليس الفعاليّة الفنّيّة الثوريّة المغيّرة في الفنّ والمجتمع. معظم ما رأيناه حتّى الآن من أعمال فنّيّة فلسطينيّة هو فنّ «عودة» إلى فلسطين، وأن ندعوه فنًّا ثوريًّا هو تناقض، لأنّ العودة حركة تشدّنا إلى الوراء، بينما الثورة تدفعنا إلى الأمام.

والأخطار الّتي تحيط بالفنّ الفلسطينيّ اليوم لها علاقة جدليّة بالأخطار الّتي تحيط بالثورة الفلسطينيّة. أن تُباع اللوحة الّتي تدّعي أنّها تنتمي إلى الثورة الفلسطينيّة بمئات الدنانير، هي خيانة لقضيّة الثورة والشعب، وهي تكوين ثروة على دماء الشهداء الحقيقيّين الّذين يموتون من أجل صنع الثورة. هذا النوع من الإنتاج الفنّي مكرّس لامتياز طبقة واحدة ومعيّنة من المجتمع العربيّ، ومحرّم على غيرها، وهو مجرّد «اكسسوار» لصالونات البرجوازيّة، والواجب الأوّل الّذي على الفنّان الثوريّ الفلسطينيّ أن يقوم به هو نسف هذه المقاييس للوحة والعمل الفنّيّ.

الحياة هي نبض الوجود والمحور الّذي يدور حوله التكوين. كلّنا هنا لأنّها اخترنا الحياة، ونحن نعيش، نعمل ونكافح في أمل حياة أفضل. حياة شعوب ثلاثة أرباع العالم اليوم مهدّدة بالفناء من قبل حكومات الربع الباقي، شعور بعض البلدان المهضومة الحقوق تقف اليوم لترفض الموت، من أجل تحقيق حياة أفضل في العالم الثالث ووضع حدّ لاستبداد الإنسان ضدّ أخيه الإنسان لا بدّ من الثورة. الكفاح المسلّح الشاقّ الضاري القاسي الّذي فُرِضَ علينا ليس هو الثورة الّتي نصبوا إليها، وإنّما هو مسلك حياة نحو الثورة. الثورة تبدأ بعد انتصار هذا الكفاح. لم يكن هدف أيّ ثورة حقيقيّة تغيير «شكل» المجتمع، وإنّما كان تغيير «مضمون» الفرد في ذلك المجتمع، وتغيير «مضمون» الفرد ينطوي على التغيير الجذريّ للمفاهيم الموروثة والقيم السابقة الّتي كبّلت الإنسان بالقيود وتشارك في إذلال إنسانيّته.

الحياة الّتي تحيط بالفنّان في العالم الثالث حياة تدعوه كإنسان يختلف في حرفته عن غيره بعامل واحد وهو أنّ مادّته الخام في حرفته هي الحياة، تعلو قيمة أعمال الفنّان في سماء الإبداع والخلود بقدر ما يغوص هو في بحر الحياة.

 

الفنّ الثوريّ رديف الحياة

كنت ذات يوم في «متحف البورغيزي بروما» أقف مذهولًا بروعة اللحم البضّ في تمثال مرمريّ لـ «كانوفا». لم أعِ كم مضى من الزمن وأنا هناك فاغر الفم وعيناي مسمرّتان بروعة، تلك المقطوعة من الجمال، فجأة أحسست بوجود فتاة خلفي تحاول أن ترى المقطوعة من زاويتي، سمعت احتكاك ساقيها وهي تتحرّك داخل ردائها الضيّق وشممت رائحة عطرها النسائي ولم ألتفت في الوهلة الأولى لأراها. الاختيار الّذي سقط عليّ في تلك اللحظة هو: إمّا أن أرشف رحيق تلك الآية الخالد من الإبداع الفنّيّ، أو أن أكتشف تلك الفتاة العاديّة حولي. في تلك اللحظة عاد التمثال كومة من الحجر… وفي ذلك اليوم من أيّام دراستي، فهمت ما قاله أحد كبار فنّاني عصرنا، عندما قال: إذا شاهدتُ عثًّا يلتهم الموناليزا ليحيا فلن أمنعه.

الحياة الّتي تحيط بالفنّان في العالم الثالث حياة تدعوه كإنسان للاشتراك في تحقيق الثورة. أعماله تشارك في تغيير مضمون الفرد، الفنّ الثوريّ ليس نتيجة عقائد ثوريّة، وإنّما نتيجة حياة ثوريّة وأعمال ثوريّة. الأعمال الثوريّة ليست تغيير مفاهيم المضمون دون الشكل أو الشكن دون المضمون في العمل الفنّيّ، بل تغيير الاثنين معًا نحو الجديد النابع من المجتمع المتغيّر، ولا تقتصر على ذلك فحسب، بل تغيّر المكانة الموروثة للفنّ في المجتمع.

العالم الفنّيّ في الغرب تطوّر في خطّ البرجوازيّة والرأسماليّة، كتابات جون بورغر، أرنست فيشتر، وهربرت ماركوز من أهمّ ما صدر في هذا الموضوع. وفي المعسكر الاشتراكيّ دهمت الستالينيّة طبيعة الفنّ الحرّة، أصبحت الأعمال الفنّيّة الكبرى مجرّد استثمارات ماليّة بالنسبة للأغنياء وتجّار اللوحات. والفنّ بات أشكالًا بهلوانيّة تكبر حجمها على مساحة اللوحة بقدر ما يصغر فيها المضمون الفنّيّ، تجرّد الفنّ من قيمه الإنسانيّة عندما صار الفنّان آلة مقيّدة في عجلات النظام الرأسماليّ، وعندما سقط في روسيا تحت نعال الستالينيّة.

الفنّان والمجتمع في العالم الثالث، وخاصّة في العالم العربيّ، لم يتلوّث بعد بلا إنسانيّة الفنّ الغربيّ المعاصر، لأنّ تاريخ فنّ الاستوديو لدينا لا يتعدّى المائة عام. قضيّة الشكل والمضمون في الفنّ الّتي كانت حلقة صراع في الغرب طيلة قرون ما تزال في أعمال الفنّانين العرب مجرّد اهتزازات وصدى لتيّارات الغرب. لا يوجد لدينا مفهوم «الغاليري» ولا تاجر اللوحات أو جامعها، ولا يوجد بيننا الناقد المتفلسف الّذي يتحدّث عن قضيّة المضمون والشكل في فنّ الرسم وكأنّه يتحدّث عن الموسيقى. هنا تقع مسؤوليّة الفنان الكبرى في العالم الثالث، عطاؤه الجديد المنفصل عن المفهوم البرجوازيّ للفنّ لن ينحصر في ما يعطيه لأمّته من مواسات وتشجيع، وإنّما بقدرته على خلق فنّ جديد للعالم. أمّا لأمّته فوجوده ضروريّ، وإن لم يُظَنُّ مُلِحًّا. الفنّان الثوريّ في عالمه اللا إنسانيّ بطل مثل زميله الّذي يحمل الرشاش على التلال ضدّ وحشيّة أعداء الشعوب.

لأسباب تاريخيّة، سياسيّة، تقنيّة، واقتصاديّة، إنّ أساليب الاضطهاد والطغيان، ووسائل الظلم والاستغلال تغيّرت مثلما تغيّر السلاح الّذي يستعمل ضدّ الضحيّة. في وجه هذا التغيير تغيّر أيضًا مفهوم البطل الّذي يقاوم العدوان في عصرنا، ما عاد البطل – العنتر الّذي يلتحق بجيش أمّته ليستقبل الموت بين صفوف المحاربين. الموت يتجنّبه كلّ من ينتمي إلى منظّمة حرب عصابات، البطل اليوم هو الّذي يقاوم دون أن يسقط في هوّة الموت، هو المحارب الّذي يحافظ على الحياة رغم الشقاء مثلما حافظ عليها أيّوب. قادة العمل الثوريّ من فييتنام، إلى غواتيمالا، من أنغولا حتّى فلسطين يردّدون للجماهير بصوت واحد: «هدفنا الأوّل الصمود». إذن نحن اليوم نعيش في بداية طريق طويل يمتدّ عصرًا كاملًا أمامنا؛ ما كانت هذه التجربة غير فصل في حياة يونس، هذه حقيقة قاسية علينا أن نقرّ بها إذا عزمنا على أن نحيا ونصنع التاريخ، زمن «فتح» هو زمن أيّوب وزمن يونس، وليس زمن عنتر.

كانت الأعمال الفنّيّة الفلسطينيّة الّتي رأيناها حتّى الآن صورة – مرآة للواقع الفلسطينيّ بينما الفنّ هو تجاوز الواقع وإعادة خلقه. وبهذا المفهوم فإنّ العمل الثوريّ الفلسطينيّ الحقيقيّ الوحيد الّذي خرج إلينا خلال هذه المرحلة القصيرة للثورة هو الرسوم الّتي حقّقها أطفال فلسطين في المخيّمات، لأنّ هذه الأعمال لا تدخل ضمن فنّ المجتمع، ولكنّها ضرورة تعبيريّة حياتيّة عن واقع يعيشه فعلًا هذا الطفل ويخلقه بأشكال فنّيّة جديدة. إنّ هذا الطفل الفلسطينيّ الّذي لا تستطيع يداه الصغيرتان حمل السلاح بعد، قد حمل الفرشاة الآن، ولكنّه سيكون في المستقبل هو وحده الفنّان المقاتل، ويومها سيكون بوسعنا لا أن نتحدّث بل أن نرى ونعيش فنًّا فلسطينيًّا ثوريًّا في حياة ثوريّة عربيّة فلسطينيّة.

يقول إرنست فيشر:”إنّ الفنّ برمّته يتكيّف بعامل الزمن ويمثّل الإنسانيّة في تعبيرها عن أفكار، ومطامح، وحاجات، وآمال حالة تاريخيّة معيّنة… ويخلق الفنّ لحظة من لحظات الإنسانيّة، واعدًا بتطوّر دائم”.

آمل أن تُعْتَبَر أعمالي الفنّيّة ذات يوم “لحظة من لحظات الإنسانيّة”، في تاريخ أمّتنا، و”واعدة بتطوّر دائم”، وأن تكون حياتي كإنسان في اتّجاههها اليوم مثالًا للصمود الّذي نحن في أشدّ الحاجة إليه لتحقيق الثورة.

#الفن #في #زمن #الثورة #الفلسطينية #أرشيف #وكالة #مدار #نيوز

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد