«المرأة ذات الزهرة».. العين تتعطر بالفن | صحيفة الخليج

الشارقة: علاء الدين محمود
أكثر ما يميز الرسام الفرنسي بول جوجان «1848-1903»، ذلك التمرد الذي اشتهر به على الأشكال الفنية الاعتيادية، والبحث الدائم عن مصادر جديدة للإلهام والطاقة الإبداعية، فعلى الرغم من انتمائه للمدرسة الانطباعية منذ وقت باكر، إلا أنه أراد البحث عن اكتشافات جديدة، وألوان مختلفة، وتقص عن المنابع الأولى للإبداع، فكان من المؤسسين لحركات فنية لاحقة، مثل مجموعة «جسر أفين» في بريطانيا، رفقة مجموعة من أصدقائه، مثل: اميل برنارد، وآخرين، حيث نشأت معهم الحركة التركيبية.

التحق جوجان بعد ذلك بصديقه الرسّام فان جوخ في مدينة آرل، بالجنوب الفرنسي، قبل أن يستقر عام1891، في «بولينيزيا» في تاهيتي التي مثلت تحولا كبيراً في حياته، وفي تلك الفترة قال عن نفسه: «إني أمر بتلك المرحلة من الخروج من الوهم، بشكل لا أستطيع معه منع نفسي من الصراخ بأعلى صوتي»، والحديث يشير إلى رغبته الجديدة في البحث عن جديد، فكان أن تمرد على أفكار الواقعيين والانطباعيين، وقال حينها: «يهتم الانطباعيون بما هو واضح للعين فقط، ولا يبالون بما هو غامض وخفي من الفكرة».

أراد جوجان من سفره إلى تاهيتي في المحيط الهادئ التحرر من الحضارة الأوروبية واكتشاف مكان جديد أكثر براءة والبحث عن المواضيع البدائية، وتوقع أن يعثر هناك على عالم البراءة الضائع، ولكنه بدلاً من ذلك وجد أن الأوربيين قد أفسدوا المكان تماماً، بمحاولاتهم نقل ثقافتهم إليه، حيث جلب قرن من الاستعمار أمراضاً خبيثة جديدة، وتبدلت الثقافة المحلية والأكواخ والملابس، وصارت تحاكي الموضة الأوروبية، حيث إن الأوربيين والمبشرين كان يرون في تاهيتي عالماً متوحشاً، وأرادوا بحسب رؤيتهم نقله من التخلف إلى التقدم، لكن جوجان أسعدته فكرة التواجد في ذلك المكان بعيداً عن المجتمع الأوروبي، واشترى لنفسه كوخاً في الجزيرة وبدأ حياة جديدة بأسلوب وسلوكات مختلفة تماماً عن التي عاشها في باريس. كانت حياة جميلة وملهمة مكنته من رسم الكثير من الموضوعات، مثل لوحات: «فتاتان من تاهيتي»، ولوحة «أوباوبا»، و«متى تتزوجين»، و«فتاة مع فاكهة»، إضافة إلى تصويره لمشاهد السباحين في تاهيتي وسكانها الأصليين، وأكوام التبن، وغيرها من المواضيع التي عبّرت عن شغفه بالمكان الذي وجد فيه كل ما أراد من أفكار فنية جديدة، وكانت تلك الأعمال هي بمثابة إعلان عن اتجاه فني جديد.

سمات

«امرأة مع زهرة»، أو «المرأة ذات الزهرة»، هي واحدة من اللوحات التي تنتمي إلى مرحلة وجود جوجان في تاهيتي، وتعبر عن اتجاهاته التعبيرية الجديدة، رسمها جوجان عام 1891، وتعد أولى اللوحات التي رسمها في الجزيرة، ويقول عن الأسباب التي دفعته لرسمها: «من أجل التعرف إلى السمات المميزة للوجه التاهيتي، كنت أتمنى لوقت طويل أن أرسم صورة لإحدى جاراتي وهي امرأة شابة»، وكانت المرأة بالفعل تقطن في كوخ مجاور للفنان، وكانت نفسها تحدثها بالاقتراب من كوخ جوجان المصمم بطريقة أوروبية، وفي يوم اقتربت من الكوخ وطلبت من جوجان أن يريها أعماله الفنية المعلقة على جدران البيت، وكانت عبارة عن مطبوعات يابانية، وبينما كانت المرأة تتفحص اللوحات طلب منها جوجان أن يرسمها، فذهبت إلى بيتها وعادت وهي ترتدي تلك الملابس الأوروبية الأنيقة مع زهرة في يدها وأخرى خلف رأسها.

معايير مختلفة

تحدث جوجان عن تلك المرأة مشيراً إلى أنها لم تكن جميلة على الإطلاق وفق قواعد الأوربيين المتعارف عليها، لكنها رغم ذلك كانت جميلة حقاً باختلافها هذا، ولعل ذلك «الاختلاف»، هو ما حفز الفنان لرسم لتلك الفتاة، كانت المرأة تفيض عاطفة، ورأي فيها جوجان نموذجاً مشابهاً لأرض تاهيتي، فمثلما أن تلك الجزيرة البكر الطبيعية الساحرة قد استعمرت وكادت أن تفقد هويتها، فإن الفتاة كانت كأنها تنتظر أن تؤخذ من تاهيتي إلى أوروبا، حيث الحداثة والتطور، ويبدو هنا موقف شديد التناقض، حيث يتضح أن كلاً من الرسام والفتاة يمتلكان مفاهيم مختلفة، فلئن كان التوق نحو عالم بكر لم تمسسه يد الحضارة، والبحث عن الكمال خارج المجتمع الأوروبي هي العوامل التي حفزت جوجان للسفر إلى تاهيتي، فإن الفتاة تحمل أحلاماً مختلفة بالذهاب إلى جنة أوروبا المتخيلة بما تحمل من مدنية وحداثة وحياة رفاهية، والواقع أن تلك المرأة التي رسمها جوجان تتميز بالجراءة ويبدو أنها متمردة على التقاليد.

وصف

اللوحة رسمت بألوان الزيت على القماش، وتظهر فيها الفتاة، أو المرأة، وهي ترتدي ملابس باللون الأزرق بتصميم غربي، وتحمل في يدها زهرة، وفي الخلفية توجد المرتفعات المحلية بالألوان الحمراء والصفراء الساطعة مزينة بالأزهار، ما يمنح الصورة اكتمالًا وتوازنا في المساحة، وقد أبدع الفنان بصورة احترافية في استعمال الألوان المتناقضة، والمشرقة، وتشير الملابس إلى الاستلاب، ورغبة المرأة في أن تصبح سيدة أوروبية، أما الزهرة فكانت لها أهميتها الخاصة، فهي وردة «الغاردينيا» التاهيتية، والتي تسمى أيضاً بالتاج، لأن النساء المحليات يضعنها في رؤوسهن، وتلك الوردة مهمة للسكان المحليين فهي ترمز للمنطقة، كما أنها ممجدة من قبل العطارين لما تحمله من روائح جميلة ونفاذة تدخل في الصناعات العطرية، لذلك لم يكتف جوجان برسمها في يد الفتاة وخلف شعرها، بل وفي أمكان متفرقة من فضاء العمل، كأنه أراد أن يعمق من رمزية تلك الزهرة، وقد وجدت اللوحة صدى كبيراً بين السكان المحليين، إضافة للجمهور الأوربي عندما عاد بها جوجان إلى باريس.

معارض

عاد جوجان باللوحة إلى باريس من أجل عرضها، والتبشير بتوجهه وأسلوبه الجديد في الفن، واشتهرت اللوحة بسرعة، وانتقلت بعدها إلى عدة معارض ومتاحف إلى أن استقرت فترة طويلة في معرض فني في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، يدعى «نيو جليبوتيك»، وقد اعتبرت بالفعل تحفة عامرة بالجمال والأساليب الفنية البديعة، وتعبر بالفعل عن مرحلة فنية مختلفة في حياة جوجان، وظلت اللوحة محط الأنظار نسبة لقيمتها الفنية العالية.

#المرأة #ذات #الزهرة #العين #تتعطر #بالفن #صحيفة #الخليج

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد