النموذج الصيني بين الاستدعاء والتلقي

ربما أن الصين لا تروّج لنموذجها. غير أن هذا النموذج هو اليوم عرضة للاستدعاء من جانب أكثر من طرف، في المحيط العربي كما في غيره، وتلقّيه يأتي محكوماً لا باعتباراته الموضوعية، بل بالحاجات الذاتية للأطراف التي تستدعيه، في ظل غياب الدفاع الغربي المطلوب عن النظام السياسي القائم على سيادة المواطن.

في حين أن الصين هي قضية نفوذ واستقرار من وجهة نظر واشنطن، فإن استدعائها كنموذج لاعتبارات محلية خارج حلبة التنافس على النفوذ العالمي من شأنه مضاعفة مخاطر المغامرات غير المحمودة، والتي قد تتورط بها الصين.

قبل الجائحة، كان موضوع صعود الصين، اقتصادياً وفيما يتعدى الاقتصاد، المسألة الأولى الشاغلة للمتابعين للشأن السياسي الطويل المدى في الولايات المتحدة. الهدف يومئذ، بل هو الهدف المستمر اليوم، كان تحقيق طابع “هادئ” لهذا الصعود. أي ألا تصرف المكاسب الاقتصادية للصين سلوكاً سياسياً أو عسكرياً متهوّراً يزعزع الاقتصاد العالمي.

خلافاً للتصورات المبنية على الرغبات الأهوائية، التي تتمنى السقوط للولايات المتحدة، الصين لم تكن تشكل، ولا هي اليوم تفعل، خطراً وجودياً للتفوق الأميركي في المستقبل المنظور، بل القناعة الغالبة هنا، والمبنية على الترابط بين مصادر قوة الصين ومقومات القدرة الأميركية، كأن تكون ثروة الصين بالدولار في معظمها، وأن تبقى الصين مصنع إنتاج للابتكار الأميركي، تضع المسألة الصينية في إطار معالجة التطورات بما يضمن المحافظة على مصالح الولايات المتحدة وتفوقها ويعود بالفائدة على الصين. هو منطق الكسب للجانبين، وإن كان طبعاً الغرض ضمان الكسب للذات بالدرجة الأولى.

ثمة إدراك متحقق في واشنطن أن أوساط عديدة في الصين، بما في ذلك القيادة السياسية تسعى جاهدة لتبديل هذه المعادلة باتجاه مطلق الاستقلالية، وباتجاه إنجاز ما تعتبره حقاً طبيعياً للصين بقيادة العالم، كالدولة الأولى من حيث السكان للتوّ، ومن حيث الاقتصاد، في المستقبل القريب، بل ربما من حيث النفوذ السياسي والعسكري على المدى المتوسط أو البعيد.

على أن هذه الرغبات، من وجهة نظر أميركية، ليست خطيرة لإمكانية تحقيقها، إذ هي، بنظرها، مبالغات غير متوافقة مع المعطيات الوقائعية. بل هي خطيرة لما قد تؤدي إليه من إقحام الصين في مغامرات، وإن كانت محتومة أو تكاد بالفشل في نهاية المطاف، من شأنها الإضرار بالاستقرار العالمي. القلق في واشنطن ليس أن الصين غير مدركة لحتمية الأذى، ولكن أنه ثمة من يرضى به لنفسه إذا كان في قدره الأكبر من نصيب نفوذ الولايات المتحدة.

أي أن إقدام الصين على “استعادة” تايوان قد يؤدي إلى تقويض الترتيب العالمي القائم، بما يتسبب باستنزاف مرحلي للمصالح الصينية، في حين أن المكسب الفوري منه يبقى رمزياً بالدرجة الأولى، غير أن هذا الاستنزاف، على سوئه، يبقى أقل من الضرر الذي قد يصيب الولايات المتحدة، مباشرة في حال تورّطت بالدفاع عن تايوان، وإن بقدر محدود، وغير مباشرة، في ظل الارتباك الحاصل في واشنطن، من خلال توظيف الهيبة الصينية المستجدة حينها لضمان المجال الآسيوي برمّته كمنطقة نفوذ صينية. أي أن التوازن المترتب بعد المغامرة سوف يأتي بأفضلية صينية.

رغم الطبيعة المركزية للنظام السياسي في الصين، فإن القناعة في واشنطن هي أنه ثمة نزعات متواجهة في صياغة السياسة الخارجية المستقبلية للصين تعبّر عن مصالح غير متطابقة، بين من يتوق إلى صرف سريع لفائض النفوذ الاقتصادي لإخراج القدرة العسكرية للصين، وبين من يدعو إلى التروّي، كسباً للمزيد من النفوذ.

جهود الصين باتجاه أفريقيا قد أثمرت شراكات وحضور، وإن لم تصل إلى مستوى الطموح. مساعي الصين للاستثمار والحضور وشراء العقارات والمؤسسات في أوروپا  سائرة، وإن اعترضتها مساعٍ أميركية صريحة، وأخرى محلية، لوضع سقف لها. شراكة الصين مع روسيا وإيران، وهي مرحلية رغم زعم إمكانية الارتقاء بها، كما استفادة الصين من الانسحاب الأميركي من أفغانستان لتعزيز اندفاعها باتجاه آسيا الوسطى، وحضورها في پاكستان، وعلاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج، تندرج كلها في إطار رؤية شاملة، من البنية التحتية التي تجسدها مبادرة “الحزام والطريق”، إلى ربط النخب الحاكمة في مختلف الدول ذات الأنظمة السلطوية بعلاقات مصلحية طويلة الأمد مع الصين.

ما كان غائباً، إلى أمس قريب، هو صيغة نظرية فكرية متجانسة تطرح ما تقدم عليه الصين على أنه نموذج منافس للنموذج الغربي، والذي ساد على الفكر السياسي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، مستفرداً الساحة الفكرية العالمية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وإفلاس الطروحات الشيوعية قبل ثلاثة عقود.

ما حصل في الأعوام القليلة الماضية هو اختلال النموذج الغربي إثر تصاعد الشعبوية والميول السلطوية والتعبئة الفئوية، ولا سيما مع وصول دونالد ترامپ إلى البيت الأبيض، لتخرج الاعتراضات على النموذج الغربي من إطارها الهامشي المحدود إلى صدر المواجهة الفكرية في العالم.

خلافاً لروسيا، والتي عمدت قيادتها إلى الاستفادة الصريحة من الارتباك الفكري في العالم الغربي، لم تبدّل الصين منهجيتها بشكل ملموس، وإن تكرّر على لسان مسؤوليها الإشارة إلى التخبط والنفاق، ليس في خطاب السياسيين الغربيين وحسب، بل في النموذج السياسي الغربي بحدّ ذاته، باعتباره رهينة للمال والترويج الدعائي.

ثم كانت الجائحة، والتي تمكنت الصين من استيعابها ميدانياً، ومن تجاوز عواقب تحميلها المسؤولية إزائها، عبر حملة مكثفة من المساعدات لمختلف الأطراف الصديقة والمحايدة، ما يضع الصين اليوم في موقع القدرة على طرح إقدامي لنموذجها.

ولكن الصين لا تعمد إلى الترويج الصريح عبر الإعلام والفكر. يمكن مع ذلك، استقرائياً واستنتاجياً، رسم معالم هذا النموذج سواء من حيث النظرية أو من حيث التطبيق. ورغم أن تجسيد هذا النموذج، وتسميته في الأوساط المناوئة للصين في الغرب، تربطه بالحزب الشيوعي الصيني، فإن أصوله وأسسه مستقاة لا من طروحات الوجوه الكبرى في التاريخ الشيوعي، ماركس، لينين، ستالين، ماو، بل من التراث الكونفوشيوسي المتعدد الألفيات.

ثلاثة أسس تحكم هذا النموذج: أولاً، الولاء والطاعة لمستحقيها من أولياء الأمر والسلطان، أي الأب والشيخ والحاكم. ثانياً، الالتزام بالفضيلة في السلوك الفردي والاجتماعي. وثالثاً، الاجتهاد بطلب العلم والسعي إلى النجاح والإنجاز والتفوق.

تصبح مهمة الدولة بالتالي قيادة المجتمع ومراقبة سلوك أفراده وتوفير فرص التعليم والعمل لهم.

ثلاثة مقومات ارتقت عالمياً في العقود الأخيرة إلى مصاف المسلمات في الأمور العامة تتراجع ضمن هذا النموذج: أولاً، الحرية الفردية، إذ هي مقيدة ومشروطة بمفهوم مستفيض للصالح العام. ثانياً، الاختلاف والتعددية والتنوع، والتي تنحدر من اعتبارها ثروة فكرية وحضارية إلى اشتراط امتثالها لمشترك عام الخروج عنه مرفوض. ثالثاً، مساءلة الحاكم وفق آليات مستقلة، والتي يستعاض عنها بالشكوى والرجاء بما لا يطال هيبة الحاكم.

مسؤولية الدولة بالتالي مضاعفة مراقبة المواطن والمجتمع ومنع نشوزهما، وكبح أي اعتراض على أدائها خارج إطار التوسّل الهرمي.

في المحيط العربي، في هذه الاعتبارات المسحضرة والمغيّبة ما ينسجم ويتلاقى مع طروحات كل من السلطويات الأبوية، سواءاً منها الملكية أو الجمهورية، والحركات الإسلامية، واليسار «الطليعي».

مع اندثار تجربة “الربيع العربي”، والتي أطلق رصاصة الرحمة عليها الانقلاب السلطوي في تونس، يكاد الجدل حول صلاحية النموذج الغربي لبلاد المنطقة أن ينطفئ في ممارسات تتكرر بالاتجاه المعاكس. ما تقدّمه الصين، من خلال الاستدعاء لا الطرح، هو النموذج “الناجح” البديل، والذي من شأنه إثبات صحّة التوجهات السلطوية.

الفرصة متاحة للجانبين، الصيني والذي لم يعقد العزم بعد على الانتقال من الممارسة العملية إلى الترويج النظري، والمحيط العربي (وما يتعداه) والذي تحتاج فيه السلطة والمعارضات إلى نموذج ناجح تطرحه للاعتبار.

ربما أن البرهان على تحول هذا التلاقي المصلحي الممكن إلى واقع فعلي يأتي في الصمت المتواصل الوضيع في كافة دول المنطقة، حكومات ومعارضات، إزاء واقع الأويغور، والذين يواجهون إبادة موصوفة ترتكبها الصين، وإن دون إراقة هائلة للدماء.

على أن إمكانية المزيد من الاستثمار لهذا التلاقي قائمة، لا بفعل التوافق الموضوعي وحسب، إنما بفعل الضعضعة التي أصابت الصف الغربي، ولا سيما الولايات المتحدة، والتي كشفت عن مواطن الخلل في تطبيق النموذج السياسي القائم على الحرية الفردية والتمثيل السياسي الصادق.

الحقيقة التي لا مفر منها هي أنه مع انعدام المقدرات الذاتية للأوساط الملتزمة بهذه المبادئ في المحيط العربي، فإن التردي الغربي يفتح الباب على مصراعيه لنفوذ ليّن واسع للصين، وإن كانت الصين إلى اليوم لا تعطيه أولوية عالية.

والصين في حال استفاض نفوذها قد تكون أكثر اطمئناناً إلى إمكانية استيعاب النتائج السلبية للمغامرات. فالمسألة تنتقل هنا من الطابع العرَضي الجانبي إلى صلب التوجس الأميركي من انهيار الاستقرار العالمي.

#النموذج #الصيني #بين #الاستدعاء #والتلقي

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد