- الإعلانات -

- الإعلانات -

بيت الرواية في تونس يلغي المسافة بين فنون السرد | حكيم مرزوقي

جميل أن تلم مدينة الثقافة في تونس شمل أهل الفن والإبداع في صرح معماري أخاذ وسط العاصمة، يليق بسمعة الثقافة في بلد مثل تونس، شرط ألاّ يتحول هذا الفضاء إلى ما يشبه المعسكر أو المحمية، فيكرس نوعا من الانعزالية الثقافية، ويساهم في صنع شكل من أشكال المركزية والتقوقع مبعدا شخص المثقف عن التفاعل مع محيطه الاجتماعي وعمقه الشعبي.

 “بيت الرواية” التي يديرها بنشاط واقتدار الكاتب الأسعد بن حسين، رواق من الأروقة اللطيفة التي تضمها مدينة الثقافة، وهو تجربة فريدة ومبتكرة في تونس والعالم العربي، ذلك أنه عبارة عن فضاء أنيق يضم جناحا للكتب وآخر للإصدارات، بالإضافة إلى أكثر من ركن حميمي لإقامة الحوارات والندوات وباقي النشاطات التي تدور في فلك الرواية.

المسرح والرواية

أول الارتباطات العضوية بين المسرح والرواية هو أن فن القص يجمع بين هذين الشكلين منذ قدماء الإغريق

لكي لا يبقى هذا الفضاء حلقة معزولة عن باقي النشاطات، وعن التظاهرات الثقافية الكبرى التي تشهدها البلاد، فقد انفتح “بيت الرواية” على الفنون الأخرى من خلال تنظيم لقاءات في علاقة الرواية بالمسرح والسينما والفنون التشكيلية، وعرض أشرطة وثائقية حول كبار الروائيين في العالم وأفلام روائية مقتبسة من روايات إضافة إلى التعاون مع المكتبة السينمائية في برمجة عروض خاصة متعلقة بالكاتب والكتاب والرواية والسينما.

في إطار ” كتابات حول المسرح” لأيام قرطاج المسرحية استضاف بيت الرواية عددا من المسرحيين للتحدث عن تجاربهم ضمن سرديات تقارب بين المنجز الإبداعي وتفاعلاته مع الشفوي والمكتوب، تغنيها الحوارات والأسئلة والنقاشات.

ولقد كنت شخصيا من بين ضيوف بيت الرواية الذين تحدثوا عن تجاربهم في هذا المجال، لكن الأهم من ذلك كله، ولكي لا يبقى الواحد سجين الذاتي والخاص، فإن المسرحي ـ ومهما بدا بعيدا عن الرواية بحلتها التقليدية المعهودة – لا يغادرها بأيّ شكل من الأشكال.

أول هذه الارتباطات العضوية بين المسرح والرواية هو أن فن القص يجمع بين هذين الشكلين من التعبير منذ قدماء الإغريق والآباء المؤسسين لفنون السرد والرواية، وإن كانت الأخيرة تقترن بوجود الإنسان وماهيته كـ”حيوان وجد ليروي”.

أما السبب الآخر لاقتران المسرح بالرواية عبر التاريخ، هو ثنائية الكتابة والقراءة التي لم تكن متوفرة لدى عامة الناس، وتختصر على النخب الضيقة، لذلك التجأ الأقدمون إلى فنون التشخيص والتمثيل المعتمدة على الصوت والحركة والصورة في حقل دلالي يجعل من الكاتب راويا ومشخصا، ومن القارئ متفرجا ومستمعا.

العصور التي سادت فيها الكتابة والقراءة لم تلغ الارتباط بالمسرح والتعلق به كطقس فرجوي احتفالي تتشارك فيه المجموعات البشرية لأغراض غير القراءة ومتعة المعرفة بل بدوافع احتفالية متأصلة في الذات البشرية بما يشبه الغريزة.

ومن هنا وقعت القطيعة بين المقروء والمشخص ليستقل كل فن بنفسه رغم أن القراءة تحمل في طياتها بعدا احتفاليا مبنيا على مبدأ المشاركة وحب التجمع، وإلا فما تفسيرنا للتعلق بالمكتبات العمومية، وبصرف النظر عن مسألة القدرة على اقتناء الكتاب من عدمها. وكذلك الأمر فيما يتعلق بما بات يعرف بالكتابة الجماعية التي تقام لها الورشات المتخصصة إذا ما جرّدناها من ذريعة تلاقح الأفكار أو تكامل الاختصاصات.

هذا هو المشترك الأول بين المسرح والرواية أي تلك الطقوسية والنزوع نحو التجمهر والاحتفال باللقاء والمشاركة ثم تأتي فكرة الرغبة في القص والسرد والإمتاع والمؤانسة كغايات كامنة خلف كل التعبيرات الفنية.

العودة إلى الينابيع

الرواية سيرة أو تاريخ متوقع والمسرح لا يختلف عنها سوى أنه استبدل القلم بالممثل والورقة بالخشبة
الرواية سيرة أو تاريخ متوقع والمسرح لا يختلف عنها سوى أنه استبدل القلم بالممثل والورقة بالخشبة

الأصل في الرواية والمسرح هو الحكاية، ومهما تاهت وضللت جميع ادعاءات التجريب وتصنّع البحث عن أشكال تعبيرية مستحدثة، فلا الرواية فقدت روحها السردية ولا المسرح كذلك. ومن يقول عكس ذلك فإنه يتحدث عن شيء آخر خارج السياقات والمفاهيم.

الرواية ظلت رواية من حيث أنها سيرة أو تاريخ متوقع، وكذلك المسرح الذي لم يختلف عنها في شيء سوى أنه استبدل القلم بالممثل والورقة بالخشبة. غالبية من كتاب الرواية في العصور القديمة والحديثة، كتبوا للمسرح أيضا، وذلك في إقرار ضمني بأن القصدية السردية واحدة ومتأصلة، لكن شكل التعبير في المسرح قد اختلف بدافع الرغبة في وصولهم إلى قدر كبير من المتلقين في عصور عزّت فيها القراءة أو اقتصرت على عدد محدود من الناس.

المسرحي إذن، هو روائي يريد أن يربح قدرا إضافيا من القراء عبر أدوات احتفالية وفرجوية تتمثل في عناصر مكملة ثم ما لبثت أن تحولت إلى فنون مستقلة كالأداء والديكور والإضاءة والصوت وغير ذلك.

هذا طبعا، لا يقلل من شأن المسرح كفن جامع لعدة فنون أخرى، لكن لا بد من التأكيد على أن الرواية والمسرح يشتركان في أصل واحد هو القص، بدليل أن بعض الروايات صارت تقرأ الآن في فضاءات مسرحية ويتناوب على قراءتها ممثلون في ما يعرف بـ”الميز أون بلاص”، ويشبه التمثيلية الإذاعية.

يخيل للباحث في هذا الشأن أن الروائي هو “مسرحي مستعجل” وربما العكس أي أن كليهما يختصر الأدوات لكن النية واحدة وهي القص ولا شيء غير القص، أما ما عدا ذلك فمجرد أدوات.

اليوم، يختلف إيقاع العصر وتختلف معه طرق التعبير والتوصيل، إذ أصبح الإنسان ميالا للاختصار والإيجاز، بالإضافة إلى حالات السأم التي جعلته يبحث عن كل ما هو مبهج ومسلّ من خلف شاشات الإنترنت، دون أن يعلم أن هذه الشاشات نفسها قد ساهمت في إيجاد هذا السأم، وكأن الأمر يتضمن المقولة القديمة المستجدة “داوني بالتي كانت هي الداء”.

وبالعودة إلى علاقة الروائي بالمسرحي التي أثارها الأسعد بن حسين في “بيت الرواية” فإن هناك عودة الآن، وفي كل مسارح العالم، إلى الحكاية أي إلى الينابيع، بعد الرحلات الشاقة والبائسة في عالم التجريب والبهارات اللونية والثرثرات الحركية.

كل ذلك يحيل إلى مبدأ في غاية الوضوح والبساطة وهو أن الطباخ المبتدئ يكثر من التوابل، والحلاق الفاشل يكثر من السيشوار للتغطية على عيوبه.

هي فسحة نطل من خلالها على قانون الوحدة والتنوع في الثقافة والفنون من خلال بيت الرواية والمدينة الثقافية التي جمعت الفنون في فضاء معماري واحد لكنه معرفي قبل أن يكون معماريا.

#بيت #الرواية #في #تونس #يلغي #المسافة #بين #فنون #السرد #حكيم #مرزوقي

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد