“تحت الياسمينة في الليل” التونسي: تكريم الاحتيال الأدبي

من “الملك الذهبي” لـ سبهان آدم (سورية)، مواد مختلطة على لوح، 47 × 47 سم

هل تدعم المؤسسات الثقافية العربية التي تقيم المسابقات، وتمنح الجوائز، حِيَلَ المحتالين وسرقات السارقين؟ بالتأكيد لا. لكنّها تفعل ما هو أسوأ: إنها توفر العتمة المطلوبة لهؤلاء.

فهي بطبيعتها الاحتفالية موسمية، تشبه معارض الكتب السنوية، وأسبوعياً تشبه أسواق الخميس والجمعة، وفي دماغها المدبِّر، في مُخيخ الدماغ أعطيات مالية ينبغي أن توزّع، وفعاليات ينبغي أن تغطّى مالياً، وتذاكر وغرف فندقية يجب أن تُحجز، وثلاث وجبات لكل واحد من الثدييات.

في هذا الطقس الموسمي، حيث العقل النقدي من المحرَّمات، يهبط منسوب الثقة في المشاركين، والناشرين، والمحكّمين، وإدارة المؤسّسة التي تنشط فقط لإقامة عرس ثقافي. وما العرس إلّا ظاهرة عربية ابتُدعت لتكون تشويهاً للديمقراطية، فإذ بها عرس ديمقراطي، والرياضة عرس رياضي، والوطن عرس وطني.

قد يكون هذا الكلام صادراً من صعلوك في البرّية، إلّا أنك تستمع إلى صوتٍ آخر، أو صداه، يشير إليه من داخل هذه المواسم الجوائزية.

الرداءة، العيب والفضيحة

خذ الشاعر اللبناني شوقي بزيع، رئيس لجنة تحكيم “الجائزة العالمية للرواية العربية” في الموسم السابق (2021)، وهو يخطب معلناً عن الفائز.

هذا مانفيستو يدين “الاستسهال والفوضى اللذين لا يطالان أدب السرد بمفرده، بل ينسحبان على سائر الفنون والأنواع الأدبية”. ويطالب الجائزة بأن “تظهر قدراً أكبر من التشدّد إزاء ما يردها من أعمال (…) وهي لا ينبغي أن تكون منصّة للرداءة والشهرة الزائفة”.

هؤلاء الهاجمون على موسم الهجرة نحو الرواية من غير الموهوبين يفعلون ذلك “بُغية الحصول عبر الجوائز على ما تيسّر من المكاسب المادية والمعنوية المطلوبة”، لكن مع “وفرة (من) الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية” التي يتحمّل وزرها “مؤلف منهمك في اللحاق بموعد الغنيمة وناشر مهجوس بجني الأرباح ومضاعفة المبيعات”، على حدّ قوله وحدّ اعتقادنا أيضاً.

لم يغيّر سوى العنوان كي يفوز بجائزتين عن الكتاب نفسه

ولأن هذه المؤسّسات كذلك، فقد لاحظوا أنها لم تكن يوماً في صلب مواجهة ثقافية، أو رافعة لقضية ثقافية، والمعارك التي تُثار بين الغانمين والغارمين، والمتدافعين بالمناكب، وصيّادي الطرائد، هي قضايا لا تخصها، ووظيفتها تنتهي مع آخر فلاش كاميرا.

وأدقّ من ذلك وأعمق، هي لا تخشى من العيب، بل الفضيحة. ولا أعني بالعيب صفةً دامغةً، بل في احتمالية أن يقع عيب فيها، مثل أي عمل بشري جماعي أو فردي في العالم.

المسجد والكنيسة مكانان لصلوات المؤمنين، لكنهما قد يشهدان حوادث اعتداء جنسي وسرقات وجرائم قتل.

ولذلك هذه المؤسسات، وفي بنيتها، تخشى أشدّ الخشية من رمي وردة على أحد، حتى لا يردّ هذا الأحدُ برمي رصاصة خيالية مازحة تصبح دامية، مثل قصة الأرجنتيني أرماندو ماكشيا التي أخذها كاتب رواية “ماكيت القاهرة” وبنى عليها روايته.

جبل الخرافات

تعالوا أخبركم عن نموذج لن تجدوه على الأغلب في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي.

في عام 2017، فاز الكاتب أحمد قُرني محمد شحاتة (هكذا الاسم رباعيّ على الكتب)، بجائزة “كتارا” القطرية في فئة رواية الفتيان عن روايته “جبل الخرافات”.

وكما أي فائز فإن من حقّه أن يفرح بالجائزة ويضيفها إلى رصيده الرمزي ويتبغدد بقيمتها المالية. كان ذلك في تشرين الأوّل/ أكتوبر من ذلك العام.

في آذار/ مارس من العام الموالي (2018)، أي بعد خمسة أشهر من فوزه بجائزة “كتارا”، شدّ الرحال إلى مسابقة أخرى في تونس، واسمها “جائزة مصطفى عزوز لأدب الطفل”، والتي حملت اسم الكاتب مصطفى بن عبد المجيد عزوز ( 1921 – 2003)، وتشرف عليها وزارة الثقافة بتمويل من “البنك العربي” في تونس.

فاز قُرني بالجائزة الأولى عن روايته “لا فائدة”. ومن الواضح أن إنتاج الكاتب غزير واستثنائي حتى أنه اصطاد جائزتين في بضعة أشهر عن روايتين. غير أن الأمور ليست كذلك. فلقد اكتُشف أن قُرني أرسل الرواية ذاتها، التي فازت بجائزة “كتارا”، إلى تونس لتفوز بـ”جائزة مصطفى عزوز”. وما كان منه بكلّ بساطة سوى أن غيّر العنوان من “جبل الخرافات” إلى “لا فائدة”.

والرواية تحكي عن جيل صغير متمرّد يرفض الإذعان لمعلّميه في المدرسة، أنشأ أفرادُه مجموعة افتراضية على “فيسبوك”. لكنّ الأستاذ ممدوح قرّر أن يشاركهم في هذه المجموعة حتى يقترب منهم، مقترحاً عليهم في أوّل الأمر رواية اسمها “جبل الخرافات” كي يتشارك الجميع في قراءتها.

أمّا النسخة التي طارت إلى تونس، فلم يقترح فيها الأستاذ ممدوح على الشباب رواية “جبل الخرافات” حتى لا يُكتشف الاحتيال، فصار اسمها “مدرسة النور”.

ولأن الوقت يداهمنا، كما يقول المذيعون دائماً، فقد نسي الكاتب تعديل الاسم في الصفحة 115، فيرد فيها: “الأستاذ ممدوح شعر بالسعادة أن الأولاد تعايشوا مع شخصيات رواية “جبل الخرافات“” التي من المفروض أن تتغير إلى “مدرسة النور”.

شروط مصطفى عزوز

لنتّفقْ على التالي: إذا أردتَ أن تشترك في مسابقة ما، فإن أول ما تسعى إليه الدخول إلى الموقع الإلكتروني، حتى تعرف العنوان الذي سترسل إليه مادتك، والشروط المطلوبة.

أبرز شرط وضعته جائزة مصطفى عزّوز، وذلك مكتوب ببنط عريض، تمييزاً لأهمّيته عن باقي الشروط، يقول بالحرف إن على العمل أن يكون “غير منشور سابقاً، وغير حاصل على أيّ جائزة أدبية”.

قرأ قُرني ذلك جيّداً، وأرسل للتوانسة رواية فائزة بجائزة، وثمنها مقبوض، لينال بنفس الرواية جائزة جديدة. ومع ذلك يخرج الكاتب في تصريح لجريدة “السياسة” الكويتية يقول فيه: “كسرتُ المألوف في “جبل الخرافات“ ولا أكتب للجوائز”.

لا يجوز أن تضع شروطاً لجائزة ثم تغطّي على مَن يخرقها

لماذا نسوق هذا النموذج؟ لأنّ هنا ليست قضيتنا مَن احتال على مَن؟ بل أن نسأل الجائزة التونسية: ماذا كانت تفعل لجنة القراءة عندكم؟ هل قرأوا الصفحة 115 ولم ينتبهوا إلى أن ثمة خللاً؟

لنقل إن أعضاء لجان التحكيم ليسوا كائنات خارقة للطبيعة، وهم قد يقعون في الخطأ أمام تسونامي كتاباتٍ مهووسة بالغنائم.
طيّب، أليسَ من حقّ عابر سبيل أشعث أغبر أن يسأل: لماذا لم تسحبوا الجائزة منه؟ أغلب الظن أن القيّمين على المؤسّسة لا يريدون أي تشويش يشكّك في أهلية الجائزة ومستواها الرفيع. يريدون للموكب أن يمضي دون حوادث سير، وربما كي يبقى تمويل الجائزة من مؤسّسة بنكية جارياً على بركة المولى.

صمتٌ تحت الياسمينة

وهذا ما أشرتُ إليه في البداية. إن المؤسّسة لا تقول إنها ترحّب بالاحتيال، لكنّها تفرش له البساط “تحت الياسمينة في الليل”.
ومن عادة العرب ألّا يسألوا الضيف عن اسمه إلّا بعد ثلاثة أيام وثلث. يكون الشخص في هذه الفترة قد احترم شروط الضيافة، أو سرق حصان ربّ المنزل وذهبات زوجته.

هذه العادة العربية لا تجوز في مسابقات ترعى الحقوق الفكرية وحقوق التساوي في الفُرص. لا يجوز أن تضع شروطاً حديثة ذات أبعاد قانونية وأدبية، منشورة على الإنترنت، ثم تغطّي أنت نفسك اختراقها.

لهذا حين قلتُ إنك لن تجد على الأغلب خبراً في الإعلام والمواقع يأتي على هذا الاحتيال، فذلك لأن “جائزة مصطفى عزّوز” لزمت الصمت.

الأشد عواراً في سلوك الجائزة، هو أن اسم الفائز في دورة 2018 بقي يزيّن ملصقاتها ومطبوعاتها بين الفائزين إلى يوم الناس.

ويا ليت الأمر تدهور إلى هذا الحدّ فحسب. فقد عاد الشخص نفسه وشارك في السنة الموالية 2019 وفاز بالجائزة الثانية عن روايته “لعبة الطائر العجوز”.

قطع الماء والكهرباء

وكان من الممكن أن يفوز بجوائز السنين التالية، لولا أن فتح الله على أحد مسيّري الجائزة، فأضاف إلى الشروط العامة بعد عام 2019 شرطا جديدا يقول: “لا يحقّ لمَن سبق له أن فاز بالجائزة أن يتقدّم إليها ثانية، إذا لم يمرّ على فوزه بها ثلاث سنوات على الأقل”.

وبهذا فقط، قطعوا الماء والكهرباء عن حاصد الجوائز، لكنهم أثبتوا مع رصفائهم من القيّمين على الجوائز العربية أن الاحتيال والسرقة والغش جروح سطحية، أمام نظام الرداءة الذي نبني به مؤسّسات ونعلي بُروجها.

إن عالم الكتابة للأطفال والناشئة يعجّ بسرقات مهولة. تخيّلوا الأمثولة التي تقدَّم لمراهق فلسطيني يقرأ “جبل الخرافات” ويهديه زميله التونسي “لا فائدة” ويكتشف الاثنان أنها الرواية ذاتها، فيشكران الله على نعمة التعدّدية، ويشقّان طريقهما معاً بكلّ فخار وسؤدد… نحو الخراب.

#تحت #الياسمينة #في #الليل #التونسي #تكريم #الاحتيال #الأدبي

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد