- الإعلانات -

- الإعلانات -

تونس تبدأ من الشارع من جديد | فاروق يوسف

إلى الافتراض غير المؤكد الذي أسقط زين العابدين بن علي لجأ قيس سعيد ليحاول أن يتأكد من أن ذلك الافتراض كان صحيحا.
كانت هناك ثورة مقرّها الشارع بكل فوضاه ولم يكن انقلاب قصر مدعوما من الخارج، بحيث كان مطار قرطاج مستعدا لاستقبال راشد الغنوشي.
انسحاب الشعب يومها بطريقة منظّمة وهادئة من الشارع لا يمكن تفسيره من جهة كونه فعلا منظما من أجل أن تتقدم الطبقة السياسية الثورية.
ولكن تلك الطبقة تعثرت بخطاها ولم تكن واثقة من قدرتها على أن تمسك بزمام الأمور وتحل محل الطبقة السياسية القديمة.
لقد نزل إلى الشارع لا لكي يتظاهر بل ليذكّر التونسيين بأن حركة النهضة قد أهدرت عشر سنوات من أعمارهم وأن عليهم أن يبدأوا من الشارع من جديد ليصنعوا غدهم بطريقة مختلفة

رومانسيو المقاهي لم يتعودوا الظهور باعتبارهم قادة محنكين فظلوا في الشارع من غير أن يتقدموا خطوة واحدة في اتجاه قصر قرطاج.
كانت حركة النهضة الإسلامية هي الحزب الوحيد المنظم الذي استعد للقفز إلى السلطة. هل كان مستعدا ذاتيا أم أن هناك من أوحى له القيام بذلك؟
لم يعد ذلك السؤال الآن مهمّا. فالفوضى التي حاول التونسيون الشباب أن يتحاشوا الوقوع فيها وتوريط بلادهم بها أحدثتها الجماعات الإسلامية.
كانت تلك الفوضى هي التمهيد المحكم لصعود حركة النهضة الإسلامية إلى الحكم. فلا أحد يمكنه التفاهم مع تلك الجماعات سوى مَن يفهم لغتها. وهي لغة شائكة ومعقدة لا يمكن فك ألغازها من قبل تيارات سياسية نشأت في أوساط منفتحة على الفكر السياسي المعاصر.
عرفت حركة النهضة كيف تزاوج بين الشارع الذي لا تملك لغته وبين لغة أعداء ذلك الشارع الذين يخططون للنيل منه بحجه تهذيبه.
أما القفز إلى قرطاج فإنه الحدث الأكثر قسوة في تاريخ العاطفة التونسية التي كانت دائما تقف عند مستويات مدنية منفصلة عن المستوى الريفي.

قيس سعيد هو ابن المستوى المدني غير أنه حضر متأخرا سنوات. تلك السنوات كانت ملعبا للتجريب القسري الذي مارسه الإسلاميون بكل أطيافهم تقودهم حركة النهضة داخل هياكل الحكم وخارجها.
لقد فتح الإسلاميون باب تونس على مصراعيه للعنف السرّي والمعلن. وهو البديل الممنهج لإمكانية حرمانهم من السلطة.
منذ عشر سنوات وهم يحكمون. نجحوا في أن يدفعوا مَن يخالفهم في الأفكار إلى أن يرجئ مشروعه التغييري ليتفرغ لصراع الحكم.
ينتصرون على خصومهم من خلال توسيع دائرة الجدل وكان مجلس النواب فرصتهم الذهبية لجر الجميع إلى الفخ. فخ العبث والعدمية.
قيس سعيد باعتباره رجل قانون عرف كل شيء قبل أن تأخذه الصدفة إلى قصر قرطاج. وهي صدفة لا يمكن الحكم عليها فيما إذا كانت حسنة أو سيئة. ذلك لأن رجل القانون وصل إلى قرطاج حزينا.
كان يعرف أن موقعه لا يسمح له بالقيام بالتغيير بسبب الصلاحيات الممنوحة له حسب الدستور غير أن ما فعله يشهد أنه وصل إلى الأقصى في الاستفادة من صلاحياته.
فعل ما لم يكن متوقعا منه. لقد توقع الكثيرون أن يكون قريبا من حركة النهضة بسبب شكله المحافظ غير أن ذلك لم يكن صحيحا.
وكما يبدو فإن سعيد وصل إلى الرئاسة بترشيح شعبي في المرحلة التي قررت حركة النهضة أن تطبق على الحكم من كل الجهات.
لذلك كانت الحرب عليه قد وصلت إلى ضراوتها من غير أن يكون طرفا في تلك الحرب. ذلك لأنه قرر أن يلتزم بالحدود الدستورية.
ولأن حركة النهضة لا تعترف بتلك الحدود فقد صارت تمارس ألعابها داخل مجلس النواب لا من أجل أن تحرجه فحسب بل وأيضا من أجل أن تفرض عليه سياسة الأمر الواقع.
عرفت حركة النهضة كيف تزاوج بين الشارع الذي لا تملك لغته وبين لغة أعداء ذلك الشارع الذين يخططون للنيل منه بحجه تهذيبه

كانت تخطط لتدفعه إلى أن يقتنع بصورته باعتباره الرجل الذي أتت به الصدفة والذي لن يكون سوى واجهة. كان هناك إيحاء يشبه التهديد بأن بقاءه في منصبه إنما هو رهين بموقفه مما يحدث في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الإسلاميون. كان هناك خطأ في تقدير رد الفعل الذي يمكن أن يصدر عن الرئيس الذي سبق له وأن أعلن أن هناك مؤامرات تُحاك من أجل التأثير على مواقفه.
وها هو المواطن التونسي قيس سعيد يلجأ إلى الشارع الذي بدأت منه الثورة قبل عشر سنوات. لم يكن في حاجة إلى أن يبحث عن أبناء تلك الثورة. كانوا جاهزين ليمشوا وراءه. تلك حركة لم يقم بها رئيس قبله.
لقد نزل إلى الشارع لا لكي يتظاهر بل ليذكّر التونسيين بأن حركة النهضة قد أهدرت عشر سنوات من أعمارهم وأن عليهم أن يبدأوا من الشارع من جديد ليصنعوا غدهم بطريقة مختلفة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد