“ثورة التوّابين”… أبطالها تراجيديون يونانيون لا يموتون
وبعد زيارة قبر الحسين أمر سليمان بن صرد أصحابة أن يتجهوا من كربلاء لقتال قتلة الحسين. وتطوّر مطلب التوّابين من مطلب ديني شخصي (التوبة من الذنب) إلى مطلب سياسي ديني وهو ارجاع السّلطة لآل الحسين بن علي، وظهرت مفاهيم الفتنة من جديد(الجهاد والضلال والحق)، وأظهر التوابون مفهوماً قرأنيا مثل ما حدث في الفتنة الكبرى وفي الفتنة الثانية في مرحلتها الأولى أي في عهد يزيد بن معاوية. والرجوع للقرآن كان ضرورياً لايجاد شرعية دينية صلبة تقف في وجه الشرعيات الأخرى “المعادية” خاصة منها الشرعية الأمويّة. كما أن التّوبة كانت أساس الخطاب الايديولوجي للشيعة التوّابين.
لم يكن التوّابون يفكرون في نجاح حملتهم العسكرية ضد الأمويّين بقدر ما كانت تدفعهم مشاعرهم نحو إعادة الاعتبار للحسين بن عليّ وذكراه كإمام شهيد ومظلوم ومغدور. وقد أتاه الغدر من ناحيتهم. وخلال المواجهة، دعا القائد الأموي التّوابين للطاعة والدخول في الجماعة التي يمثلها الخليفة عبد الملك بن مروان. بينما دعا التوّابون الجيش الأموي أن يسلّموا لهم عبيدالله بن زياد ليقتلوه كما قتل الحسين وغيره من اخوانهم، كما طلبوا منهم خلع عبد الملك بن مروان، وأخراج آل الزبير من بلادهم أي من الكوفة، وأخيراً إرجاع السلطة لآل بيت الرسول، فرفض كلاهما مطلب الآخر. كان جيش الشام الأموي يرى نفسه على حق، وقادة التوابين يعتقدون أنهم وحدعم على صواب.
ويذكر البلاذري أن الحرب بين الطرفين كانت على أشدّها. وانهزم أهل الشام ولم يوقف القتال إلا قدوم الليل. وفي اليوم الثاني دخلت مجموعات جديدة إلى القتال، ورغم التفوق العددي لجيش الأموي، فإن التوابين لم يفقدوا الأمل… وحرص الرواة على تلميع صورة الشيعة من القواد. فهم يظهرون كأبطال من أبطال الميتولوجيا اليونانية لا يموتون بسهولة ويقاتلون بكل شراسة. وهم لا يموتون الا بعد أن يجتمع العديد من الرجال لقتلهم. ويروي أبو مخنف بأن عبيدالله بن سفيان المزني، وهو من التوابين، بعد انتهاء القتال، هبّ إلى الجيش الأموي شاهراً سيفه، كـ”دون كيشوت”. وكان يقول الشعر معبّراً عن هروبه إلى الله… في السياق تبين الكاتبة أو الباحثة بثينة بن حسين، ومن خلال المرويات، أن الفرار بالنسبة لبعض العناصر الهاربة من ساحة المعركة كان يعني التنكر للمبادئ الشيعية ولاصحابهم من القواد والفرسان الذين استشهدوا ليتوبوا من ذنوبهم، ويعني كذلك التمسّك بـ”الحياة الدينا” و”الظفر بالنفس من الهلاك”. ويتبين من المرويات أيضاً أهمية العصبية القبلية في تعبئة العشائر وتحريضها على محاربة الجيش الأموي. كما أن المكونات الانتروبولوجية للعشائر بقيت مهمّة (كالأمان) في مجتمع عربي إلى اقصى حدود.
لقد كان التوابون مصدر الفتنة بالنسبة للخليفة عبد الملك بن مروان، الذي أسس الوالي التابع له الدولة التي تسيطر على القبائل، خاصة بتركيزه لنظام ارستقراطي متمركز على الأشراف. فكان أشراف الكوفة يؤطرون قبائلهم ويحصلون في مقابل ذلك على هدايا مهمّة من الدولة. فكان هذا التنظيم يمكّن والي العراق من السّيطرة على الأمصار.
وتتساءل بثينة بن حسين بأنه ربما كان الشيعة كبقية الأشراف يريدون المحافظة على امتيازاتهم المالية، فحاولوا أن يخرجوا عن الدولة واستدعوا الحسين بن علي للقدوم إلى الكوفة، لكنهم تراجعوا أمام قوّة الدولة بأشرافها (أشراف الكوفة) وقوة المؤسسات الردعية (الجيش والشرطة)، وكذلك قوة الإيديولوجيا (الوقوف ضد الخارجين عن الطاعة)، واخيراً لا ننسى قوة شخصية عبيد الله بن زياد الذي كانت لديه مقدرة عسكرية وسياسية.
كما أن الشيعة لم يكن لديهم جيش أو أنصار يمكن الاعتماد عليهم تجاه قمع الدّولة، فخذلوا الحسين بن عليّ. ولم تكن ثورة التوّابين سوى “عملية انتحارية” في سبيل التّكفير عن ذنوبهم المتمثلة في خذلان سبط الرسول الحسين بن علي، وكانت أشبه بالجهاد في سبيل تركيز المذهب الشيعي. وتميزتْ هذه الحركة بطابعها العربي القحّ حيث شاركت فيها القبائل العربيّة في الكوفة، كخزاعة وفرارة وتيم، وخاصة القبائل اليمنية كالأزد وبجيلة. وتبقى القبائل اليمنيّة من أكثر القبائل تشيّعاً في الكوفة منذ مشاركتها في صفّين مع علي بن أبي طالب، واصطفافها وراء حجر بن عديّ الكندي في ثورته ضد معاوية بن ابي سفيان وواليه على العراق زياد ابن أبيه. بينما ساهمت العناصر الأعجمية في الثورات التالية، كثورة المختار الثقفي. ولاحقاً ستنضم العناصر الإيرانيّة والهنديّة وغيرها إلى هذا التّنظيم، وتعطي طابعها الخاص للتشيّع. وتظهر أهمية مرحلة كربلاء في مسار التّوابين، فقد كان التوقّف بها عبارة عن ولادة تاريخ جديد للشيعة. فقد نشأت كربلاء على أيدي التوابين كمحطة للذكرة الشيعية، ستتطور عبر التاريخ. كانت مسيرة التوّابين من الكوفة في اتجاه كربلاء طقساً أساسياً سيتطور لدى الشيعة في القرون التالية، وبعد اضطهادهم في الفترة الأموية والعباس، سيتطور الأمر الى حج لمكان أساسي، وهو من أماكن الذاكرة الشّيعيّة الحسينيّة…
#ثورة #التوابين #أبطالها #تراجيديون #يونانيون #لا #يموتون
تابعوا Tunisactus على Google News