جرائم العنصرية.. الأحداث في فرنسا والصدى في تركيا

 

يوم الجمعة، الثالث والعشرون من ديسمبر/كانون الأول 2022، وقع حادث اعتداء عنصري قام به مواطن فرنسي ضد عدد من المواطنين الأكراد في العاصمة الفرنسية باريس، أسفر عن مقتل ثلاثة أكراد، امرأة ورجلين، وإصابة ثلاثة آخرين. وكما هو الحال في معظم الحالات التي لا يكون المشتبه به عربيا أو مسلما، يتم ترديد العبارات الثابتة، من قبيل “حادث فردي”، “المتورط في الهجوم مختل عقليا”، “تم اعتقال المشتبه فيه وجارٍ التحقيق”، “الطبيب الذي فحص المشتبه به اليوم خلص إلى أن الوضع الصحي للشخص المعني لا يتوافق مع إجراء الاحتجاز”، “لذلك تم رفع إجراء الاحتجاز بانتظار عرضه على قاضي تحقيق عندما تسمح حالته الصحية بذلك”، “التحقيقات مستمرة”.

وبعد فترة تهدأ الأزمة ويتراجع الاهتمام الإعلامي، وتعود الأحداث إلى التكرار من جديد، وتتكرر معها العبارات نفسها، مع اختلاف الأسماء والأماكن، والمحصلة قتلى ومصابون، وترسيخ للانقسام والعنصرية في بنية المجتمع، مع تراكم النتائج المدمرة لمثل هذه الأحداث الفردية.

 

أكراد فرنسا بين الحجم والتأثير

يبلغ عدد الأكراد في فرنسا نحو 150 ألف شخص، وفق بعض التقديرات غير الرسمية، من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 68 مليونا، أي أنهم أقل من 0.2% من إجمالي السكان، ومعظم أكراد فرنسا من المهاجرين الكرد الذين وصلوا لأول مرة إلى فرنسا قادمين من تركيا في النصف الثاني من الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ووصل قسم آخر منهم قادما من العراق وإيران خاصة خلال فترة الثمانينيات من القرن العشرين في ظل تداعيات الحرب الدامية التي استمرت ثماني سنوات بين الدولتين، كما زادت الهجرات من العراق في بداية التسعينيات على خلفية المجازر والانتهاكات التي ارتكبها نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين والتي من أشهرها ما عُرف باسم “حملة الأنفال” 1988.

كذلك خرجت هجرات كردية من سوريا إلى فرنسا في أعقاب التحولات السياسية التي شهدتها سوريا في ظل موجات ما سُمي الربيع العربي بداية من مارس/آذار 2011 وحتى اليوم. بجانب نسبة من الأكراد الذين وُلِدوا على الأراضي الفرنسية يشكلون الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين الأتراك والعراقيين، والجيل الأول من أبناء المهاجرين السوريين.

وانخرط هؤلاء في المجتمع الفرنسي إلى حد كبير، وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2014، نظم الكرد في فرنسا وعدد من الدول الأوربية مظاهرات واسعة احتجاجا على هجوم تنظيم داعش على مدينة كوباني في سوريا آنذاك، وفي 25 يوليو/تموز 2015، قام أنصار حزب العمال الكردستاني في فرنسا بمسيرة في باريس احتجاجا على الهجمات التي قام بها الجيش التركي على معاقل الحزب، الذي تصنفه تركيا كيانا إرهابيا.

كما خصصت الحكومة الفرنسية عام 2020، لأول مرة في تاريخها، درسا في المناهج الفرنسية للحديث عن الأكراد، وجاء الدرس لمناهج لطلاب الصف الحادي عشر في المرحلة الثانوية، وتطرّق إلى الحديث عن أن الأكراد “شعب بلا دولة”، وأنهم جالية “تناضل من أجل الحصول على حكم ذاتي منذ بداية القرن العشرين”، وجاءت هذه الخطوة من جانب الحكومة الفرنسية لتأكيد شراكتها الاستراتيجية مع الأكراد، ليس في الداخل الفرنسي المأزوم، لكن في دول المواجهة مع تركيا مثل أكراد إيران، وأكراد العراق، وأكراد سوريا.

 

موقع تركيا من المعادلة الكردية في فرنسا

إن أهمية الأكراد في فرنسا لا ترتبط بالنسبة العددية بقدر ما ترتبط بأهمية هذه الورقة في إطار التنافس المحموم بين تركيا وفرنسا، والدعم الفرنسي السياسي والإعلامي والمالي للمعارضة الكردية سواء التي تعمل من داخل فرنسا أو من خارجها للسياسات التركية.

وهو ما ظهر بوضوح في تصريحات “أجيت بولات” المتحدث باسم المجلس الديمقراطي الكردي في فرنسا، الذي قال نصا “الوضع السياسي في تركيا في ما يتعلق بالحركة الكردية يدفعنا بشكل واضح إلى الاعتقاد بأن هذه اغتيالات سياسية”، و”المجلس يعتقد أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والدولة التركية يقفان وراء هذه الاغتيالات”.

ودعا بولات السلطات الفرنسية إلى “الكف عن مراعاة السلطات التركية عندما يتعلق الأمر بأمن الأكراد”. و”وقف هذه اللعبة الخبيثة”، مشيرا إلى أنه عبّر للاستخبارات الفرنسية عن “مخاوف” تتعلق بأمن الناشطين الأكراد”. متجاهلا في تصريحاته السجل الإجرامي لمرتكب الحادث من ناحية، ومتجاهلا تصريحات الداخلية الفرنسية من ناحية ثانية.

وهذه التصريحات التقطتها ليس فقط وسائل الإعلام الفرنسية المعارضة للسياسات التركية في أوربا والشرق الأوسط، لكن أيضا وسائل الإعلام الألمانية التي تسير على النهج ذاته.

وفي المقابل، استخدمت بعض وسائل الإعلام التركية الحادث لتأكيد أن هذه هي النتائج المتوقعة لدعم واحتضان ورعاية من سمّتهم “الإرهابيين والتنظيمات الإرهابية المتطرفة” في إشارة إلى أنصار حزب العمال الكردستاني الذين تظاهروا في باريس السبت (24 ديسمبر 2022) وأحرقوا العديد من السيارات والمحلات وتصدت لهم قوات الأمن الفرنسية.

 

فرنسا بين العنصرية واليمين المتطرف والاقتصاد المتراجع

إن الحدث الذي تعرّض له الأكراد، وإن كان من يقف خلفه فرد، إلا أن هذا الفرد اعترف أنه عنصري، وأن هذا الحادث ليس الأول الذي يقوم به، وهو ما يعكس حقيقة وواقع العنصرية في المجتمع الفرنسي، الذي شهد عشرات الحوادث خلال السنوات الخمس الأخيرة، لم تقف عند حدود جنسيات محددة، لكنها استهدفت معظم إن لم يكن كل الجنسيات التي يتم تصنيف المنتمين إليها على أنهم لاجئون وخاصة القادمين من دول أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، رغم أن هؤلاء المهاجرين يشكلون الكتلة الصلبة اليوم في المجتمع الفرنسي، والدول التي ينتمون إليها ترتبط بعلاقات تاريخية ممتدة مع فرنسا مثل مهاجري تونس والمغرب والجزائر وسوريا ولبنان ومالي وتشاد والنيجر.

إلا أن صعود اليمين الفرنسي، وتصاعد لغة خطابه العنصري الإقصائي، مع النتائج التي حققها حزب الجبهة الوطنية من أجل الوحدة الفرنسية برئاسة ماري لوبان، في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي شهدتها فرنسا، وأصبح يشكل الكتلة الثالثة في البرلمان، واستناد الحزب على قاعدة جماهيرية أغلبها من رجال الأعمال وجزء من الطبقة البرجوازية الموجودة في المجتمع الفرنسي، واستخدامه خطابا شعبويا تجاه قضايا الهجرة واللجوء، وتقديم نفسه على أنه المدافع الأول عن الشعب الفرنسي وعن رفاهية ونقاء الفرنسيين في مواجهة تمدد المهاجرين، كل هذا ساعد على خلق وترسيخ مشاعر العداء والكراهية لدى الشعب الفرنسي متسلحا بشعارات من قبيل “الدفاع عن الفرنسيين”، “الفرنسيون أولا”.

يزيد من خطورة هذه الأحداث تدهور الأوضاع الاقتصادية في فرنسا على خلفية تداعيات الحرب الأوكرانية من ناحية، وتراجع الدور السياسي والاقتصادي والأمني في عدد من الدول الأفريقية التي كانت تشكل عمقا استراتيجيا تعتمد عليه فرنسا في سد جزء من احتياجاتها الأساسية، من ناحية أخرى.

 

ماكرون وتصدير الأزمات للخارج

إن إدارة ماكرون الذي يحكم البلاد منذ عام 2017، ونجح في انتخابات الولاية الثانية في أبريل/نيسان 2022، ليستمر في الحكم خمس سنوات قادمة، وبدلا من التركيز على مواجهة أزمات الداخل، والتصدي لتمدد أخطار العنصرية واليمين المتطرف والأزمات الاقتصادية والتراجع الاستراتيجي في أفريقيا، يقوم باختلاق معارك وهمية تارة مع تركيا (على خلفية الوضع في شرق المتوسط والعلاقة مع اليونان وقضايا الأرمن)، وتارة مع قطر (على خلفية تنظيم قطر لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2022)، بما ينعكس سلبا على أنماط تحالفاته وتوازناته السياسية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تعزيز الشراكات وليس هدمها أو التأثير السلبي عليها.

ومن هنا، تبقى أهمية تأكيد أن الحدث الذي شهدته فرنسا في الثالث والعشرين من ديسمبر 2022، لن يكون الحدث الأخير، بل ستكون هناك أحداث أخرى قادمة، وبعضها سيكون أسوأ في تداعياته من هذا الحدث، لأن جذور العنصرية وتيارات اليمين تتمدد في عمق بنية المجتمع، وهذا التمدد يمكن أن يقود إلى التفجير الداخلي إذا لم تتبن الحكومات الفرنسية الحالية والقادمة معالجات جذرية لهذه التحديات.

#جرائم #العنصرية. #الأحداث #في #فرنسا #والصدى #في #تركيا

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد