حاشية على “ما قالته غزّة …”

الذائع عند المتكلّمين في الأدب أن النصّ الإبداعي عن حدثٍ بعينِه، ساخنٍ وكبير، يحتاجُ مسافةً زمنيةً عنه، لينكتبَ ناضجا، فلا يتّصف بأنه مجرّد تعبيرٍ عن شحنة انفعالٍ ما. وهذا قولٌ صحيحٌ في عمومه، وإنْ ليس بالمطلق. وليس مبكّرا السؤال عن الرواية أو القصيدة أو القصة أو المسرحية، كيف تنكتب عن الحدث المشتعل في أبدان الفلسطينيين من أهل قطاع غزّة، وفي أرواحهم، وفي كل ما لهم هناك. أي كيف تنكتبُ عالية السويّة، واللغة، والبناء؟ ولكن، هل على الرسّام والمسرحيِّ والشاعر والقاصّ أن ينتظر مغادرة الحرب غزّة، ليرسم ويُمسرح ويحكي؟ السؤالُ متعلقٌ بمبدعين ومبدعاتٍ كثيرين فلسطينيين هناك، في بيوتهم وفي مراكز الإيواء وخيام النزوح في القطاع، وهم يكابدون من أجل الاحتيال على الزّنّانات والصواريخ والقذائف، ليبقوا أحياءَ ما أمكن. ومتعلقٌ أيضا بكل مبدعٍ عربيٍّ في أي مكان. وبالتأكيد، الإجابة كلا. … لأيّ واحدٍ أن يصنع النصّ الذي يريد، ويرسم اللوحة التي يشاء، ويُنجز المسرحية التي يحبّ. وعلينا استقبال هذا بتقدير، بل وغبطةٍ أيضا ربما، وبالاكتراث به كما يليق. وفي الأثناء، لنا أن ننتظر مديحا آخر لظلٍّ عالٍ آخر في قصيدةٍ جديدةٍ تحاول أن تقع على الألم العميق في مقتلة غزّة بعد أن تنتهي، وسُرودا من القصص والروايات، ومشهدياتٍ مسرحيةً وسينمائية، تذهب إلى البعيد في جوهر الجرح الغزّي الثقيل. نطالع قصائد ويوميّاتٍ ونصوصا حرّة تنكتب، استيحاءً من الفجيعة التي تتواتر متوالياتُها قدّامنا على الشاشات، وتعرّفنا متابعاتٌ صحافيةٌ عن ورشات رسمٍ في المجرى نفسه، وذلك في فلسطين وفي غير بلدٍ عربي. وهذا الممثل الأردني، الكبير حقّا، محمد العبّادي، أراد أن يقول بعضَ غضبه، في غضون محرقة غزّة، فيعرِض، في عمّان هذه الأيام، عمله القديم “وحدي”، بعد تجديدٍ في النصّ ومساهمةٍ إخراجيةٍ من حكيم حرب. وهذا مدير دار ميريت، الناشر المصري محمد هاشم، يُنجز مبادرةً طيبة، بعد أن وجد “أنه لا يكفي أن يكون البكاء وسيلتنا الوحيدة”، بتعبيرِه الرائق في إطلاق كتاب “ما قالته غزة … قصائد وشهادات منها وعنها وإليها”، في مقرّ الدار في القاهرة، قبل أسبوعين. وكان هاشم قد وجّه نداءً، عبر وسائل التواصل، إلى من يرغب من الشعراء لتقديم نصوصٍ كتبوها عن غزّة، ثم جَمع ما وصل إليه في الكتاب الذي صدَر أخيرا، وضمّ نصوص 26 شاعرا عربيا، بينهم فلسطيني واحد، الغزّي المقيم في رام الله خالد جمعة. وللذي قالته الشاعرة المصرية، غادة نبيل، قيمته، إنها طاردت الناشر طويلا، لتضمن حضور نصّ لها في الكتاب، لأنها أرادت “التحرّر من الأعباء النفسية” التي تُطاردها منذ بدأت الحرب. وأوضحت إنها قاومت كثيرا طلب كتابة قصائد عن غزّة، لأنها قاومت، طوال تجربتها، “كتابة القصيدة السياسية المباشرة”. واستذكرت صرخة الشاعر الراحل حلمي سالم، بعد إنجازه ديوانا عن ثورة يناير، “هذا هو الواجب، فليأت إذن دور الشعر”، وقالت إن ما كتبتْه وغيرُها في “ما قالته غزّة …” هو “تعبيرٌ عن الغضب، كما يعكس الشعور بالواجب الذي تسقُط معه الاعتبارات الفنّية أحيانا”.تقرأ في الكتاب قليل الصفحات من شعر التفعيلة وقصيدة النثر وقصائد بالعاميّة المصرية، ومقدّمة للباحث المصري نبيل عبد الفتاح، يتحمّس فيها للشعراء، عندما لا يشكّ (!) في أن “شعرية الجحيم الأرضي، وغارات وقصف الطائرات فائقة التطوّر التقني، والصواريخ والمدافع، والألم التراجيدي الذي لا يطاق، ولا يبدو عابرا في أي مخيال فردي أو جماعي من قبل، لا يستطيع أحدٌ حمله والتعبير عن عمقه الوجودي سوى الشعراء”. ويسترسل بعض الشيء لتوضيح قولته هذه، والتي يبدو عليها التعجّل، وإن ثمّة مقدارٌ من الصحّة في ذهابه إلى أن الشعر هو “أكثر السرديات والأجناس تعبيرا عن جدلية اللحظة في أبعادها كافّة”.لم تنتدب هذه المقالة نفسَها لفحص القيمة الأدبية لنصوص الكتاب (ثمّة نصوص قليلة مُستعادة، لا صلة لها بحدث غزّة الراهن)، وإنما لتقدير المبادرة الطيّبة لدار ميريت القاهرية، غير أن هذا لا يعني إغفال البهجة بالذي فضفض به شعراءٌ وشاعراتٌ مجدّون، من مصر وتونس واليمن والجزائر، وبغبطةٍ ببعض نصوصهم، وكذا برسوم أحمد اللبّاد التي اشتغلت على “قشرة البطيخ”. وغزّة من قبلُ ومن بعد، كما كتب خالد جمعة “… تُهيئ تابوتا من خشب المندلينا/ تعدّ جنازتَها قرب البحر تلضُم الفصول كمسبحةٍ في عنقها/ ودون دعوةٍ يأتي الجميع/ ولم يتأخّر أحد”.

#حاشية #على #ما #قالته #غزة

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد