حتى لا يفكر الموظفون في تونس بمنطق الغنيمة | رياض بوعزة

قد يكون من غير المنطقي تقديم أحكام مسبقة على مسار الزيادة في الرواتب الذي انطلق هذه المرة في تونس في وضع أكثر صعوبة قياسيا بما كان عليه الأمر في السابق مع بلوغ التضخم مستوى تاريخيا.

الدولة قامت بما يمكنها القيام به وما على الموظفين في القطاع العام سوى إدراك أن الكرة باتت في ملعبهم، وأنهم باتوا أمام تحديين مختلفين، الأول كيفية التأقلم مع ما سيحدث حتى حلول 2025، وثانيا مساندة الحكومة في إصلاحاتها مع تحمل قسوتها دون ضوضاء.

على مدار سنوات ظلت زيادة الرواتب في تونس أمرا واقعا. ليس فقط بسبب جعلها تسير بموازاة غلاء المعيشة لتطويق آثارها السلبية، ولكن لتحقيق الأمان الوظيفي والسلم الاجتماعي. وهذا الأهم بالنسبة إلى الساسة. كان ذلك يحدث والبلد يحقق نموا اقتصاديا ولو بمعدلات ضعيفة لتجنب الإضرابات. 

◙ لكسب المعركة وجعل الجميع يستفيد، فإنه يتعين على الموظفين أولا تعديل ثقافتهم الاستهلاكية بفك الالتباس بين الضروريات والكماليات التي تنهك القدرة الشرائية

 لقد ساهمت الأزمة الاقتصادية خلال ثمانينات القرن الماضي في إبراز مسألة الدولة ومدى فاعلية القطاع العام في جعله نقطة ارتكاز لثلاثة محاور أساسية إذا ما استثنينا الجانب الإداري البحت له وهي دفع ماكينة الاستهلاك والحماية الاجتماعية ومراكمة الناتج المحلي.

لم يكن الحديث حينها عن الاقتصاد المفتوح أو إشراك القطاع الخاص في التنمية. فالوقت لم يكن سانحا لأسباب تتعلق بهشاشة الدولة وضعف مناخ الأعمال. بل كان الاهتمام بكيفية بناء مؤسسات وإدارات وشركات حكومية بما يتوفر من كفاءات ويد عاملة متاحة.

كان السؤال يدور حول ما إذا كان اعتبار أن البلد قد استطاع جعل الموظفين في الدولة، كونهم نواة الطبقة الوسطى، رمانة ميزان بين الفقراء والأغنياء وأنه بمنحهم رواتب تغطي احتياجاتهم ستكون قد حفزتهم على ترسيخ مفهوم المواطنة لجعلهم يشعرون بالانتماء، وبالتالي دفعهم إلى الإسهام في التنمية.

تلك السياسة ظلت خاضعة لنواميس التغييرات على شكل الدولة مع تعاقب الحكومات. وحتى مع السعي لوضع أسس تجعلها تمسك العصا من المنتصف ظل التململ موجودا بسبب الغلاء قبل اعتماد خيار المفاوضات مع اتحاد الشغل لزيادة الأجور في كل مرة.

الأمر اليوم مختلف. فحتى والدولة وهي في عز محنها، وتقف على أطلال أزمة مالية لم تشهدها منذ الاستقلال وتضخم تاريخي وما تبعه من فقدان للسلع عن قصد أو دونه فقد سجلت الحكومة نقطة في مرمى اتحاد الشغل ووافقت إما مكرهة أو لحسابات في نفس الرئيس قيس سعيّد بزيادة الرواتب بنسبة 5 في المئة.

◙ النقابة الأقوى حصلت على مرادها كالعادة وهذا ليس مستغربا حيث لم تصمد أيّ حكومة منذ الستينات أمام ضغوطها

حصلت النقابة الأقوى على مرادها كالعادة وهذا ليس مستغربا حيث لم تصمد أيّ حكومة منذ الستينات أمام ضغوطها، ومعه حصل قرابة 680 ألف موظف بالقطاع العام على فرصة جديدة، قد لا تطول كثيرا، لترتيب أوضاعهم ومواءمتها مع قدراتهم الشرائية التي تتآكل على وقع غلاء قاسٍ.

اللافت أنه لن يحق لهؤلاء الموظفين المطالبة وفق آخر بنود الاتفاق الموقع بين الحكومة والاتحاد على أيّ زيادة جديدة في الرواتب، حتى لو كسر مؤشر التضخم البالغ 8.6 في المئة، حاجز الرقمين. إلى ذلك الحين قد تتفجر جولة صراع جديدة بين الطرفين.

أكثر ما يشد الانتباه هو أن الاتفاق كان محل تقييم إيجابي مفاجئ لوكالة فيتش للتصنيف الائتماني ما يمكن اعتباره دليل موافقة ضمنية لصندوق النقد الدولي على فتح خط ائتمان لتونس بعدما وضع اقتصادها وإصلاحات حكومتها تحت المجهر منذ أشهر.

في خضم ذلك علينا أن نرى المستفيدين المباشرين من القرار، حيث أنه ظل الغيوم الملبدة التي تلقي بظلالها على الأوضاع العالمية لا أحد لديه مفاتيح تغيير الوضع بسرعة وإعادة توجيه دفعة الاقتصاد بوجه عواصف التقلبات المعاكسة حتى مع اعتبار أن زيادة الرواتب ستعمل على تحفيز الاستهلاك والطلب على السلع ما يعني تحريك الأسواق في قطاعات تجارية وخدمية.

ليس بمقدور أكثر المتفائلين التكهن بالمقابل الذي سيقدمه جيش الموظفين هذا لكي ينهضوا ببلدهم التائه في مسارات شديدة التعقيد. مع ذلك فإن بيدهم ما يكفي للقيام بإنجاز جماعي يدعم الاقتصاد المنهك بدلا من التذمر والحديث عن رفض إصلاحات الدولة المطلوبة من صندوق النقد.

بعيدا عن فرضيات من أين ستأتي الحكومة بالتمويل لتأمين هذه الزيادة خاصة وأن تداعيات حرب أوكرانيا زادت من استنزاف المالية العامة جراء واحد من أعلى مخصصات رواتب القطاع العام في العالم مقارنة بحجم الاقتصاد، الذي لم يقترب حتى من عرض إيلون ماسك للاستحواذ على منصة تويتر، فإن شريحة الموظفين تتمتع بامتيازات أفضل من غيرها على الأقل حينما يتعلق بالدعم.

عندما ننظر إلى متوسط الراتب الشهري للموظف التونسي والذي يبلغ قرابة 3910 دنانير (1218 دولارا)، حيث تتراوح الرواتب ما بين 990 دينارا و17.5 ألف دينار وفق بعض التقديرات، ومع الزيادة المقررة فإنها تبدو معقولة قياسيا بدخل الموظف في دول أخرى عربية غير نفطية تمر بنفس ظروف تونس.

◙ على مدار سنوات ظلت زيادة الرواتب في تونس أمرا واقعا. ليس فقط بسبب جعلها تسير بموازاة غلاء المعيشة لتطويق آثارها السلبية، ولكن لتحقيق الأمان الوظيفي والسلم الاجتماعي

ولذا فإنه لكسب المعركة وجعل الجميع يستفيد، فإنه يتعين على الموظفين أولا تعديل ثقافتهم الاستهلاكية بفك الالتباس بين الضروريات والكماليات التي تنهك القدرة الشرائية. وهذه إشارة قد تسهم في إعطاء صناع القرار السياسي استراحة من المطالب، والالتفات إلى تنفيذ الإصلاحات.

إن الابتعاد عن فخاخ الاستدانة والدخول في دوامة القروض التي يصعب الخروج منها، خاصة في ظل الفائدة المرتفعة، مسألة لا تقل أهمية. فعبر اتّباع سياسة التقشف الذاتي قد تعود أسر موظفي القطاع العام إلى التفكير في الادخار بعدما تقلص بشكل مقلق في السنوات الأخيرة.

هذا الاتجاه إن أخذه الموظفون بجدية قد يجعل السيولة النقدية متوفرة بشكل أكبر في القنوات الرسمية بغض النظر عن حجمها ومسألة قيمتها في ظل تدهور قيمة الدينار ما يعني أن فرصة تحسين الجدارة الائتمانية ستكون أكبر في عيون وكالات التصنيف.

وفوق كل ذلك فإن هذه الشريحة وكغيرها من الطبقات الاجتماعية ورغم كل الظروف الضاغطة، فإن عليها التفكير بعقلانية بعيدا عن منطق الغنيمة. وهذا ينطبق كذلك على السياسيين والنقابيين. فاقتصاد تونس يمكن أن يتعافى ويزدهر مهما كانت التحديات إن تبنت كل الأطراف أساسيات تراعي منطق “لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي”.

وربما صناعة الوعي الاستهلاكي ستكون الوصفة الأمثل.

#حتى #لا #يفكر #الموظفون #في #تونس #بمنطق #الغنيمة #رياض #بوعزة

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد