- الإعلانات -

- الإعلانات -

ربيع تونس وخيبات جيل الشباب في “حرائق قرطاج”

لئن كانت الوقائع التي تتشكل منها الأحداث الرئيسة في رواية “حرائق قرطاج” (شركة المطبوعات – بيروت) للكاتب التونسي خير الدين جمعة، محدودة، أو بسيطة، بحسب اتفاق سبعة طلاب زملاء الدراسة، في الجامعة الوطنية في تونس، بصفتهم شخصيات، على حكاية تجاربهم، كلا على حدة، في الثورة التونسية التي اندلعت في الـ14 من يناير (كانون الثاني) من عام 2011، والتي فر في أعقابها رئيس البلاد إلى الخارج، وحتى انفجارات بروكسل في عام 2016 التي اتهم بها الإسلاميون المتطرفون التونسيون، فإن ما سيكشفه كل هؤلاء الأشخاص السبعة، على التوالي (خليل بن خليفة، نبيل السينكو، ومنير بن مبروك الملقب بـ”كوجاك”، وسناء خمسين الملقبة بـ”أم خطاب”، وطارق التومي، وعلي اليحياوي، وفاطمة لبيض) يمكن اعتباره سرداً بانورامياً شاملاً للمشهد الدرامي الذي بلغه الإنسان التونسي، وسط تحدياته وأبعاده كافة. وعلى هذا النحو سيضيف كل من هؤلاء الرواة مشاهد جديدة لمساهمته الخاصة في حدث الثورة التونسية، وهذا من دون وازع خارجي، أو ظرف يمهد لهذه الروايات الشاهدة على الثورة، في خلالها وما قبلها وما بعدها، وتسجيل أعمق التحولات الإنسانية التي أصابت هذا الكائن – الشاهد أو ذاك، على قدر ما تتيحه ذاته العليمة والواعية.  

الرواية الجوقة

والحالة هذه، لا يجد الروائي غضاضة في جعل سبع شخصيات، لكل منها ذات عليمة، يروي كل منها جانباً من تجربته، ومشاركته في الثورة التونسية، وربط مشاركته هذه بظروف نشأته القاسية، ومعاناة ذويه، والكلام على مظاهر الفساد في السلطة التي ثار عليها، وعلى صورة الغرب المستعمر، ونفسية التعالي التي يعامل بها الإنسان الغربي كل لاجئ أو هارب من بلاد القتل والتخلف والفوضى والمهانة، وكل هذا في قالب سردي محركه أحداث الـ14 من يناير من عام 2011، غداة الإعلان عن موت محمد البو عزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجاً على معاملة الشرطة له.

الرواية التونسية (شركة المطبوعات)

وفي هذا السياق، يستهل الروائي سلسلة الأصوات، بفصل أول هو بمثابة شهادة يؤديها خليل بن خليفة، عبر خمسة مشاهد (ص:7-45)، وهو أحد الطلاب السبعة، في الثانوية العامة، ممن كانوا يمثلون روابط الطلاب والناطقين باسمهم لدى الإدارة. فيروي، كيف انه كان شديد التعلق بسناء، أو الخمسين، في حينه، وكيف دخل عليهما، في مبيتهما الطلابي، نبيل السينكو، ومنير بن مبروك، مصابين برصاص الشرطة، وكيف أن سناء المومس الشابة ذات الـ50 ديناراً، وقد صادقت خليلاً، بعد أخيه خالد، سارعت إلى تضميد جراح نبيل، ومنير، ثم استدارت إلى نبيل تجامعه بجموحها المألوف. وبعد ذلك راح يصف علاقته المأزومة بوالده، الذي “تعامل مع أنذال تحالفوا مع النظام” (ص:42)، في حين تعامل هو “مع أنذال ركبوا الثورة بعد أن التهمت أبناءها مبكراً” (ص:42)، وكيف أنه اكتسب مهارات في التجارة جعلته يستغني مادياً. وبينما كان يستحضر ماضيه القريب، في الكلية، استوقفه مشهد اعتقال إرهابيين في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، بتهمة تدبير التفجيرات فيها، فإذا باثنين من المعتقلين هما سناء، وطارق التومي، الماركسي السابق، والعضو في “داعش”، يظهران على الشاشة، مكبلين بين أيدي رجال الشرطة. ولم يلبث أن أخبرته السيدة مارتين بأنه قبض على فاطمة، أو “فاني” بتهمة الإرهاب، ولم ينج علي الإخوانجي من التدبير عينه.

وفي الفصل الثاني، ينقلنا الكاتب إلى وجهة نظر أخرى، بل إلى تدوينة أخرى توسع مدى الرواية أفقياً، وتسهم في تأثيثها، ومضاعفة الأبعاد والفاعلين فيها مع أن أحداث الرواية المحورية هي نفسها لدى وجهات النظر السبع، أي الثورة التونسية، وما بعدها بقليل، هي وجهة نظر نبيل السينكو، أحد أفراد الشلة السبعة، وفيها يروي كيف أنه، هو اليساري الفقير، أحب فتاة تدعى “فاطمة أو فاني”، من بيئة أرستقراطية، وأمكن له إنقاذها، بمعونة منير كوجاك، من أيدي الإسلاميين، لدى هجوم الأخيرين على الثانوية واختطافها لبرهة قصيرة. وفيها يبدي بعض أفراد الشلة، إلا خليل، آراءهم في حالة الانهيار التي آلت إليها البلاد، اقتصادياً، واجتماعياً، والفساد المستشري، والخشية من سيطرة الإسلاميين على الدولة لكونهم أكثر تنظيماً من اليسار، وغيرها. إلى ذلك، يصف لنا نبيل السينكو أحواله الصحية، وقد تملكه مرض السكري الخلقي حتى إن الأطباء فشلوا في معالجة رئته المصابة. إلى ذلك، يورد المدون السينكو، حوارات بين أفراد من الشلة، يختلط فيها عبث الشباب المقبلين على الدنيا، بثورتهم ورقتهم ومثاليتهم، واندفاعهم الوجداني والعاطفي، إلى قلقهم من الحال الآتي آلت إليها البلاد.

في الفصول الباقية، أو وجهات النظر التي تكشف كل منها عن منبت كل مدون، وبيئته الاجتماعية التي ينطق بلسانها، يتسع إطار التدوين ليشمل تجربة شخصيات أخرى ذات أدوار مختلفة، نظير شخصية منير بن مبروك، الملقب بكوجاك، وفيه نتعرف إلى تجربة بطل تونسي في الجودو، لم تعترف به بلاده، في حين حاز أكبر الألقاب في دول أميركا اللاتينية، ولما عاد إلى بلاده، شق عليه أن تكون امرأته كريستينا الكوبية المسيحية التي أحبها، غير مرضي عنها. وها هو صديقه طارق بن تومي يصير إسلامياً متطرفاً، ويحثه على الجهاد في مدينة سرت، بليبيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وما القول عن تجربة سناء خمسين التي تستفيض بدورها في اعترافاتها، بل في تحليل سلوكها الماجن والعابث، وامتهانها البغاء، رداً على قتل والدها أمها على مرأى منها، وزواجه من أخرى؟ ولكن موت نبيل السينكو، بعد معاناته من الفشل الكلوي (ص:186)، عادت إلى سابق عهدها من ممارسة الدعارة، في مدينة سوسة، إلى أن سجنتها السلطات الإخوانية الجديدة، ولم تخرج إلا بعد أن توسط لها “طارق التومي” أحد أفراد الشلة، المتحول بدوره إسلامياً باسم أبو عزام، وبعد أن استغفرت الله وأعلنت توبتها.

خطابان وظواهر لافتة

لم أصف رواية الروايات هذه للأديب التونسي خير الدين جمعة بالملحمة اعتباطاً، ذلك أن مقادير الصراعات، والمواقف، والمسائل المطروحة فيها بقوة وبحرارة، تجعلها في طليعة الروايات المتعددة الأبعاد، واقعياً، واجتماعياً، وسياسياً، ونفسياً، الأكثر تمثيلاً لرؤية جيل الشباب التونسي الذي عاش تجربة ثورة عام 2011، وخيبته الوقائع، وبددته الخيارات والأحوال، فاضطر إلى طلب الخلاص، وإن فراراً بالبحر، والموت في لججه، من دون الوصول إلى بر أوروبا، تلك الجنة الموعودة، حيث الكرامة مفقودة، بحسب الكاتب.

ومع ذلك، لم يكن خطاب الكاتب العميق، والحقيقي، إبلاغ القراء باستحالة العيش في البلاد، وسط حالة التفلت الأخلاقي، وتسيد النزعات الأصولية، وتحكم الفساد في مفاصل الدولة التونسية، على ما يصف في روايته عبر شهادات الشخصيات السبع التي أشرنا إليها لاحقاً. وإنما وجدته ماثلاً، برأيي، في خطاب السيدة ليلى الساعي، الحائزة حديثاً دكتوراه في السياسة من جامعة مونتريال، وصديقة فاطمة أو فاني، التي حذرت فاطمة من التمادي بعلاقتها مع علي اليحياوي، “ما دام يحتج بفتاوى ابن تيمية فإن ذلك كارثة! أتعرفين لماذا؟ لأن تلاميذ ابن تيمية المحدثين هم سيد قطب، وأسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وقتلة الرئيس المصري السادات، وهم الذين طعنوا الكاتب نجيب محفوظ…” (ص:372).

أما الحديث عن موسوعية الكاتب، وقدرته على التوسع في الوصف، وتنمية السرد وتنسيل خيوطه وضبط إيقاعاته المتسارعة والمنتظمة في آنٍ، وبلغة يوشحها بعض الشعر، وكثير من الصور، فأحسب أنها خير مواكب للجو الصراعي والدرامي الذي يرين على الرواية، ويشي بآفاق أرحب غير ما تم سرده هنا.

للكاتب خير الدين جمعة عديد من الأعمال القصصية، مثل “صفحات المهزلة”، و”وشم بربري”، و”أكاذيب أمي الخمس”، وعديد من الدراسات النقدية.

#ربيع #تونس #وخيبات #جيل #الشباب #في #حرائق #قرطاج
تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد