شلل يهدد النشاطات الفنية في بعديها الاحتفالي والمعيشي | حكيم مرزوقي

تونس – ليس أكثر تراجيدية من أن يهزم فايروس كورونا معنى الحياة، قبل أن يهدّد الحياة نفسها. هذا ما نستشفه صراحة، ونتوجّس منه ونخشاه يوما بعد يوم، ونحن نرقب الشلل الذي بدأ يُصيب النشاطات الثقافية والفنية في بعديها الاحتفالي والمعيشي.
ومهرجان المدينة المتزامن مع شهر رمضان في تونس، يسجل غيابه لدورتين متتاليتين بسبب الجائحة فتصوم عن سهرات الفن والثقافة بلاد عاشت على إيقاعه ما يزيد عن الثلاثين عاما في مختلف المحافظات، وصار من العسير فطامها عن هذا المهرجان العريق الذي أضحى من طقوس شهر الصيام وعاداته صيفا وشتاء، حتى أنه نشّط حركة الأسواق وعوّضها عن خمول النهار، بالإضافة إلى دوره الاجتماعي في التقارب ومدّ جسور العلاقات.
هكذا، وبعد انتظار وشك وأخذ ورد، حسم مدير مهرجان المدينة بالعاصمة تونس زبير الأصرم الأمر قبل دخول شهر رمضان بأيام قليلة، وأكّد أنه تقرّر إلغاء الدورة الثامنة والثلاثين للمهرجان، للعام الثاني على التوالي، وذلك على إثر الإجراءات التي أقرّها الاجتماع الدوري للهيئة الوطنية لمجابهة فايروس كورونا، وأبرزها إعلان حظر التجوّل بداية من السابعة مساء إلى الخامسة صباحا، ومنع التجمعات على مختلف أشكالها.
تعوّد الغياب

مهرجان المدينة ترك للعام الثاني على التوالي فراغا لم تملأه الأعمال الدرامية ولا الاستعادات التلفزيونية لدوراته السابقة

بصرف النظر عن مدى صواب هذا القرار ومناقشته في ظل الجائحة التي تعيد ترتيب الأولويات رغم عشوائية وتعسفية الإجراءات أحيانا، فإن تظاهرة احتفالية أخرى بحجم مهرجان المدينة في تونس قد تحال على التقاعد المبكّر ويطويها النسيان حتى بعد زوال الأسباب والموانع.
النشاطات الفنية والثقافية، وما يرافقها من مظاهر احتفالية، تشبه الأعضاء البشرية في النظرية البيولوجية، إذ أنها تذبل، تضمر وتختفي في حالة عدم استعمالها.. وهكذا تُنسى كما لو أنها لم تكن، وفق ما يؤكّد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا.
إن استمرت هذه الغيابات المبرّرة اليوم، بحكم الجائحة وما يرافقها من بروتوكولات صحية، فسوف يعتادها الناس في المستقبل، دون مطالبة أصحابها بالتبرير، ذلك أن الإنسان نسّاء بطبعه ثم أن العادة طبيعة ثانية.. ومن اعتاد الغياب المتكرّر يستغرب الناس عودته وحضوره بل قد يستهجنونه أحيانا، ويرون في ذلك ضربا من البدع والخروج عن المألوف.
ألا يستغرب الكثير من الناس اليوم إحياء طقوس وعادات وتقاليد كانت قد سادت ثم بادت، كذلك ستنسى وتتجاهل الأجيال القادمة، بنفس الاستغراب، ملامح تظاهرة احتفالية كانت في الأمس القريب تملأ الدنيا وتشغل الناس.
مدينة تونس التي تفخر بمهرجاناتها الكثيرة والغنية والمتنوّعة تنوّع ثقافات من سكنوا إليها منذ مئات السنين، وأقاموا حول جامعها الكبير (جامع الزيتونة) المعالم من قصور ومنازل وزوايا، تتخلى هذا العام عن احتضان واحد من أعرق مهرجاناتها وأكثرها شعبية وحميمية وتجذّرا في تاريخها. وتتخلى مع مدينة تونس مدن وبلدات كثيرة داخل الجمهورية التي راهنت منذ تأسيسها على الفكر والثقافة والفن كأنجع وسائل التطوّر ومحاربة الانغلاق والالتحاق بالأمم المتطوّرة.
احتضنت فضاءات مهرجان المدينة منذ نشأته موسيقيين ومغنين وشعراء ومنشدين ومسرحيين من داخل البلاد وخارجها، وبميزانية ومخصّصات تشرف عليها بلدية المدينة، بعيدا عن البذخ الذي يطبع المهرجانات التجارية، وفي جو حميمي دافئ يصالح التونسي مع محيطه العمراني والاجتماعي، وتراثه الروحي الذي يتزامن ويتناغم مع شهر الصيام ليصبح رمضان بأكمله مهرجانا لكل ما هو غير مادي من نفائس التراث.
ويُصنّف مهرجان المدينة في تونس كثاني أهم تظاهرة موسيقية وغنائية في البلاد بعد مهرجان قرطاج الذي ينتظم منذ سنة 1964 ويعدّ أعرق مهرجان غنائي في العالم العربي. لكنه، وفوق ذلك كله، يتميز بطابعه غير التجاري، إذ ساهم منذ انطلاقه في التعريف بعدة مغنّين وموسيقيين تونسيين مغمورين تحوّلوا في وقت لاحق إلى نجوم في تونس والعالم العربي، ولعل أشهرهم لطفي بوشناق وصابر الرباعي وصوفية صادق ونبيهة كراولي وزياد غرسة، وفرق كثيرة للإنشاد الديني، بالإضافة إلى عازف العود العالمي أنور إبراهم.
وتنبّه المبرمجون من المشرفين على هذا المهرجان الذي ولد بشخصيته المستقلة، إلى ضرورة التنوّع والانفتاح على أجناس فنية مختلفة دون إضاعة الهوية، فأرفقوا الحضور اللافت للموسيقى الروحية والصوفية بتظاهرة تخصّص نافذة لأنماط موسيقية مغايرة مثل الموشّحات الأندلسية والهيب هوب والبلوز وتعبيرات ثقافية أخرى كالرقص والباليه والعزف على البيانو وآلة الترومبيت وكذلك العروض السينمائية.
تنويعات مفقودة
الفنان لطفي بوشناق يعدّ واحدا من أهم اكتشافات مهرجان مدينة تونس
لم يتغافل المهرجان في دوراته السابقة عن برمجة عروض ببعض شوارع العاصمة وساحاتها على غرار “سيرك تونس” وعرض المجموعة الموسيقية “أفينكاو” القادمة من كوبا، وغيرها ممّا يضفي البهجة في النفوس ويغني الفرجة الآسرة والذائقة الراقية.
كل هذا المكسب الثقافي الذي تحسد عليه تونس، مهدّد اليوم بالكساد والنسيان ومن ثم الاندثار إن لم تصرّ جهات الإشراف على استمرار هذا المهرجان مهما بلغ حجم الصعوبات والعراقيل، فالمتذرّعون بالجائحة تناسوا أن بلدانا أوروبية كثيرة نال منها الوباء وزهق أرواحا أكثر من تونس، لكنها لم تتخلّ عن موروثها الثقافي ولم تكتم أصوات مبدعيها فأوجدت الحلول ضمن احتياطات صحية تضمن التباعد الاجتماعي وتكفل استمرار النشاطات الفنية والثقافية إحساسا منها بالمسؤولية إزاء التاريخ والأجيال التي سوف تأتي.
أوبئة كثيرة عاشها العالم الغربي قضت على الآلاف من البشر، لكنها لم تقض على شتى أنواع الفنون والثقافات بفضل ذلك الوعي التاريخي الذي يفتقده ويستهتر به مشرفون كثيرون على النشاطات الثقافية في البلدان العربية.
مهرجان المدينة ترك للعام الثاني على التوالي فراغا لم تملأه الأعمال الدرامية ولا الاستعادات التلفزيونية لدوراته السابقة، بل زادت الأمر وحشة وحنينا ورغبة في عودته أكثر من أي وقت مضى، خصوصا وأن تونس أصبحت لديها مدينة ثقافية تمسح أرضا فسيحة في قلب العاصمة، وتتّسع للعشرات من الأروقة والفضاءات المتخصّصة، مثل “قطب المسرح” و”متحف الفن المعاصر”، و”بيت الرواية”، و”معهد تونس للترجمة”، وغيرها.. هذا بالإضافة إلى تجهيزات حديثة يشرف عليها ويديرها فنيون شباب.
هذا الإنجاز الحضاري، يبدو رمضان هذا العام، أشبه بمدينة أشباح، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يقدّم الحل البديل الذي يغنينا عن القاعات العادية المغلقة ويحتضن مهرجان المدينة وغيره من التظاهرات التي تؤنس ليل تونس، وتحميه من خفافيش التطرف والظلام.

الخوف بات يسود الشارع الثقافي التونسي من أن يحال مهرجان المدينة إلى التقاعد المبكر بحكم تعود الجمهور على غيابه

ويشير مهتمون بالشأن الثقافي التونسي إلى أنه كان يمكن أن تُتيح الخيارات الافتراضية التي تمنحها التكنولوجيا فرصة لبقاء بعض الحياة في المشهد الثقافي التونسي، غير أن القائمين على مختلف حقول الفن لا يبدون متحمّسين لهذا الخيار، لنجد مهرجانا واحدا أو اثنين يقام افتراضيا، على عكس الموجة الأولى من الوباء التي أنتجت حركية ثقافية على وسائط التواصل الاجتماعي، وكانت قائمة على مبادرات فردية من الفنانين، لكنها سرعان ما خفتت ولم نعد نجد لها أثرا واضحا.
مدينة بلا مهرجانات هي مدينة بلا حياة، يستوطنها التجهم والعبوس، ويعربد فيها الانغلاق والتطرف، فكيف إذا كانت تونس التي يُضرب بها المثل في “الهوس بالاحتفاليات والمهرجانات” وكانت تنسج على منوالها بلدان عربية أخرى.. لقد آن الأوان أن يقع تدارك الأمر قبل أن تصاب البلاد بـ”الزهايمر الثقافي”، علاوة على قطع أرزاق المئات والآلاف من الناشطين والعاملين والمنتفعين من مثل هذه التظاهرات الثقافية التي توفّر “وجبات” لا غنى عنها في حياة التونسيين.
إصرار الوسط الفني وحده على عدم التفريط في تظاهرة احتفالية بحجم مهرجان المدينة كفيل بتصحيح المسار وإنقاذ الذاكرة من التلف. وقال جمال العروي رئيس النقابة المستقلة لمهن الفنون الدرامية إن قرار الحكومة يعمّق الأزمة الاجتماعية للفنانين.
وأضاف معبّرا عن رأي زملائه في الوسط الفني “سنعمل على فرض تنظيم ما بقي من التظاهرات الثقافية خلال العام الجاري مثل أسبوع المسرح التونسي والمهرجانات الصيفية وأيام قرطاج المسرحية والسينمائية وغيرها، ولا مجال لتجويع الفنانين مستقبلا”. والأخطر من ذلك كله هو تجفيف الذاكرة الجماعية الذي يهدّد به قرار إيقاف مهرجان عريق، من شأنه أن يعوّد الناس على توقفه فلا يسألنّ أحد عندئذ عن عودته أو غيابه.

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد