- الإعلانات -

- الإعلانات -

عندما تدفع تونس صحة شعبها وكرامته ثمنا لصراعات سياسييها | الحبيب الأسود

اضطرت تونس إلى طلب المساعدة من دول شقيقة وصديقة لمواجهة الوضع الصحي الكارثي الذي تمر به ليس فقط نتيجة الانتشار السريع لفايروس كورونا، وإنما بالأساس نتيجة الفشل الذريع الذي تواجهه البلاد على جميع الأصعدة، فهي اليوم في حالة اختناق مالي واقتصادي واحتقان اجتماعي وتحت وطأة أزمة سياسية طاحنة، وكل المؤشرات تدفع نحو التشاؤم، بسبب إخضاعها خلال السنوات العشر الماضية إلى تجارب صبيان السياسة وهواة السلطة والطارئين على فكرة الحكم والمتنافسين على تقاسم المصالح، ومن عقلية تضع الحزب قبل الدولة والجماعة قبل المجتمع، ولا تعترف بالآخر إلا تابعا أو عدوّا تجب محاربته.
مع اتساع رقعة الأزمة الصحية، بات الصراع بين الرئاسات الثلاث يتمحور حول من الذي يستجاب له أكثر لنداء الاستغاثة الذي يطلقه. ورغم بعض الاستحياء من إعلان تونس دولة منكوبة، أو الخشية من أن يؤثر ذلك على صورتها أمام المانحين الدوليين، وهي تحاول الحصول على قروض لمواجهة الوضع المالي المتعسّر، تحولت أرصفة السياسة والإعلام المحلية إلى فضاء لإحصاء المساعدات المقدمة، ولاسيما من الدول العربية، وفق تراتبية المحاور، حيث يفاخر أنصار رئيس الدولة بأنه استطاع جلب معونات أكثر من رئيس البرلمان الذي ورّط نفسه منذ أن تولى ذلك المنصب بمنافسة قيس سعيّد على صلاحياته، وخاصة في مجال العلاقات الخارجية والنشاط الدبلوماسي، لتتشكل ملامح صراع سياسي دفعت البلاد بسببه فاتورة غالية سواء على حساب وضعها الداخلي أو على حساب صورتها في محيطها والعالم.
في مثل هذه الأيام من الصيف الماضي، كانت تونس تفاخر بأنها تجاوزت الموجة الأولى من الجائحة بسلام، ففي الـ12 من يوليو 2020 مثلا، أعلنت وزارة الصحة عن تسجيل 39 حالة إصابة جديدة بفايروس كورونا جميعها إصابات وافدة من الخارج، ليرتفع العدد الجملي للمصابين بهذا الفايروس منذ بداية ظهوره في تونس إلى 1302 حالة مؤكدة وعدد المتوفين إلى 50، ولكن في الـ12 من يوليو 2021 تغيّر المشهد تماما بشكل مأساوي غير مسبوق، حيث سجلت البلاد 106 حالات وفاة جديدة فضلا عن 4300 إصابة ليتجاوز  إجمالي عدد الإصابات في البلاد 500 ألف بينما بلغ عدد الوفيات حوالي 16500.
ما الذي جرى لتصل تونس إلى شفا الهاوية؟ الجواب بسيط وهو أن الصراع على السلطة من قبل صبيان السياسة أدى إلى الإطاحة بحكومة إلياس الفخفاخ وجاء بحكومة هشام المشيشي، وإذا كان الرئيس سعيد هو من رشح الرجلين، وحاول أن يمارس من خلالهما سلطته وكأنه تحت أحكام نظام رئاسي، فإن في الطرف المقابل، كانت حركة النهضة تعمل على بسط نفوذها التام على السلطة، ووضع نفسها في موضع الحزب الحاكم المتفرد والباحث عن أدوات لفرض دكتاتوريته العقائدية والفئوية لتجاوز أزماته الداخلية ولتكريس نفسه كقوة أساسية غير قابلة للتأثر بتراجع مد الإسلام السياسي في المنطقة.

نجحت حركة النهضة في الإطاحة بحكومة الفخفاخ، وعندما دفع الرئيس سعيد بأحد الموثوقين لديه وهو هشام المشيشي إلى تشكيل حكومة جديدة، استطاعت الحركة تدجينها مقابل منحه الثقة وتوفير الغطاء البرلماني الذي يحتاج إليه، وبذلك انتزعته من صف الرئيس لتضعه في صفها، لتنطلق المواجهة الأشرس بين قرطاج والقصبة وباردو، ولتدخل البلاد في تجاذبات جعلتها محل سخرية القريب والبعيد، ووصل الأمر إلى قطيعة بين رؤساء الدولة والحكومة والبرلمان، كانت تحتاج إلى تدخل السفراء أو دبلوماسية المآتم والأعياد الوطنية لاختراقها ولو جزئيا.
ولكن الأمر استمر دون حلحلة، فرئيس الدولة يتحدث على أنه مالك الحقيقة كلها، ورئيس البرلمان يتصرف وكأنه الحاكم بأمره، ورئيس الحكومة الذي جيء به من مركز مهم في الخدمة العامة دون خلفية سياسية، استطاب الحكم واختار الانحياز لمن يضمن له البقاء فيه أطول مدة حتى يغادر الكرسي بسيرة ذاتية وراتب تقاعدي لرئيس حكومة وليس لمسؤول عادي.
عندما قرر المشيشي تنفيذ شروط حزامه البرلماني بإقالة كل الوزراء المقرّبين من الرئيس سعيد، وتعويضهم بوزراء جدد يحظون بقبول النهضة وحلفائها، دخلت البلاد مأزقا جديدا لا تزال تعاني منه منذ أواخر يناير الماضي، حيث رفض الرئيس دعوة الـ11 وزيرا لأداء اليمين الدستورية أمامه، لتصاب الحكومة بشلل ساهم بدور كبير في الدفع بها إلى حالة الحيص بيص.
ولأن خزينة الدولة كانت تقترب من الإفلاس، فإن فتح الحدود دون ترتيبات علمية، وارتخاء قبضة الإجراءات الصحية، وعدم التركيز على جلب التلاقيح في موعدها، والاتجاه للاكتفاء بمساعدات منظمة الصحة العالمية، مع اتساع حالة الاحتقان في المجتمع إلى درجة عدم الانتباه إلى الخطر المحدق، وانتشار ثقافة الغيبيات والخرافة ورمي المصير على مشجب الأقدار والجهل والتجاهل والإهمال وعدم الانضباط بالتوصيات.
كل هذا أدّى إلى كارثة صحية يصاب فيها أبناء الشعب ويموتون، ويستعملها الساسة في إلهاء الشارع، والإخوان في التغلغل الصامت في مفاصل الدولة، والمسؤولون في تصفية الحسابات والنزاعات، والحكومة في الترويج لصورة البلد المأزوم المحتاج إلى الدعم وبالتالي غير القادر على دفع الديون المستحقة عليه والتي حان موعد سدادها، كما يستغلها التحالف البرلماني بزعامة حركة النهضة في تمرير القوانين والاتفاقيات المشبوهة وهي تعلم أن لا أحد من المعارضة يستطيع تحريك الشارع  للاحتجاج إلى أن يمر الصيف وينسى الجميع ما حدث تحت قبة مجلس النواب.
تبقى حركة النهضة جماعة عقائدية مرتبطة بمشروع متجاوز لفكرة الدولة وعابر للوطنية، تمثله أقليّة متقوقعة على ذاتها، تتحرك في السر أكثر مما في العلن، ورغم أنها لا تمثل إلا جزءا يسيرا من المجتمع، إلا أنها مصرة على وضع يديها على السلطة والمقدرات، وعلى إخضاع الأغلبية لمشروعها، وقد استطاعت بدعم إقليمي ودولي أن تمتلك الآليات التي تمكنها من ذلك، ومنها الدستور المشتت للصلاحيات، والقانون الانتخابي المشتت للأصوات، حتى عرفت كيف تشكل موقعها كأقوى حالة ضعف وسط فعاليات سياسية قزمية.
الوضع في تونس سيبقى في طريقه إلى مزيد التأزم إلى أن تستطيع الدولة استعادة أنفاسها، وهو ما يتطلب دحر النخبة السياسية واستبعادها عن مواقع القرار

حركة النهضة اليوم تحكم البلاد وتتحكم في مصير 12 مليون نسمة بحوالي نصف مليون صوت حصدته في انتخابات 2019، وبالمقابل يكتفي الرئيس سعيد بخطاباته المملة في كل مناسبة والتي يهدد فيها بكشف حقائق لم يتجرأ على كشفها رغم خطورتها وفق ما يرد على لسانه، في حين يجد رئيس الحكومة نفسه عرضة للابتزاز من قبل حزامه البرلماني ولاسيما من قبل الإخوان الراغبين في التسلل من ثقوب الأزمة إلى مختلف مراكز القرار بهدف السيطرة عليها قبل انتخابات 2024 أو أيّ انتخابات سابقة لأوانها، عسى أن يستطيعوا بذلك التلاعب بالنتائج بعد أن وضعتهم استطلاعات الرأي في مرتبة متدنية أمام خصمهم اللدود الحزب الدستوري الحر.
بعد 121 يوما من بدء حملة التطعيم، تلقى الرئيس قيس سعيد الجرعة الأولى من اللقاح ضد فايروس كورونا، كان ذلك كافيا لكشف مستوى الشعبوية التي تعاني منها البلاد، فالرجل الذي يمثل أعلى هرم السلطة وعنوان السيادة اكتشف بعد أربعة أشهر أن تلقيه للقاح قد يشجع المتقاعسين من أبناء شعبه، بينما كان من المفترض أن يكون أول من يمد ذراعه لحقنة التطعيم.
وفي الأثناء، يتساءل البعض: هل أفلست تونس إلى حد أنها لم تستطع توفير 200 مليون دولار لشراء ما يكفي نصف شعبها على الأقل من التلاقيح؟ مبدئيا يكون الجواب بلا، فرصيد البنك المركزي من العملة الصعبة حاليا يبلغ حوالي ثمانية مليار دولار، وكان من الممكن تخصيص جزء منه لشراء ما يكفي من التلاقيح ولو بقطع الطريق أمام اعتمادات تصرف يوميا على سلع استهلاكية يمكن الاستغناء عنها، وأغلبها يتم استيراده لمنافسة المنتج المحلي.
إن الكارثة الصحية التي تعانيها تونس اليوم هي نتاج طبيعي لهشاشة الدولة التي لا تقاس فقط بالعجز عن أداء مهامها ولكن كذلك بعدم الرغبة في القيام بدورها، وهي هشاشة ناتجة بالأساس عن تحول الدولة إلى مراكز نفوذ متداخلة وإقطاعيات بحجم موقع كل من لديه سلطة مادية أو معنوية، وبالتالي فإنه حتى وإن اجتمع الأشقاء والأصدقاء على دعمها للخروج من هذه الأزمة، فإن الوضع سيبقى في طريقه إلى مزيد التأزم إلى أن تستطيع الدولة استعادة أنفاسها واسترجاع قواها، وهو ما يتطلب بالأساس دحر النخبة السياسية الحالية واستبعادها عن مواقع القرار، وفسح المجال أمام الكفاءات الحقيقية القادرة على إنقاذ تونس ودولتها الوطنية التي لم تر في تاريخها وضعا كالذي تراه اليوم من الرداءة والتردي والانهيار.

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد