- الإعلانات -

- الإعلانات -

فؤاد زويريق: أنا في أرض أجدادي بحارة المغاربة في القدس 


وأنا في مدينة القدس كانت لي رغبة شديدة في زيارة حارة المغاربة والوقوف على ما تبقى منها بعد الهدم الذي طالها سنة 1967، الطقس كان دافئا هادئا، بخلاف أحياء وأزقة المدينة القديمة التي كانت ممتلئة ومزدحمة بالحشود، كانت أصواتهم المتداخلة والمختلطة بصياح الباعة والمرشدين السياحيين تجعل من المدينة جسدا يعج بالحياة، لم أهتم بكل هذه الأصوات ولم أحاول فرزها. فكل لغات العالم متواجدة في هذا المكان، لغات تلاقحت فيما بينها لتكوِّن رموزا مبهمة لن تفهمها مهما حاولت، كان تركيزي منصبا على حارة المغاربة، اخترقت الحشود بحثا عن البوابة المؤدية إلى داخلها، فوجدتها في الزقاق المؤدي إلى حائط البراق ”المبكى”. رائحة التاريخ المنبعثة منها كانت كفيلة بإرشادي إليها دون سؤال أو مجهود حتى، دفعت الباب دون استئذان ودخلت، فكيف أطلب إذنا لدخول بيوت أجدادي.
مجموعة من البيوت المتتداخلة فيما بينها هي كل ماتبقى من حارة المغاربة، بيوت معدودات بمساحات صغيرة جدا. كنت أبحث عن السيدة عائشة المصلوحي وهي مقدسية من أصل مغربي لأم فلسطينية وأب مغربي، سألت عنها، لكن للأسف لم أجدها وقت زيارتي، فهي كما أخبروني ذاكرة هذه الحارة أو الزاوية، والجميل أنها مازالت تحتفظ بالتقاليد المغربية كما هي حتى أن طبق الكسكس الأسبوعي لا يفارق بيتها.  
الجميل في زاوية المغاربة هذه، أبواب بيوتها المفتوحة طوال اليوم كما في المناطق الشعبية المغربية تماما، لم أجد كما قلت السيدة عائشة فقصدت بيتا آخر، طرقت بابه المفتوح لتناديني سيدة من الداخل، ”أدخل” ، لم أتبين صوتها جيدا بقيت واقفا في مكاني إلى أن نادتني مرة أخرى بصوت مرتفع ”أدخل يا إبني… مرحبا بك” دخلت إلى الداخل فوجدت سيدة مستلقية على السرير، ملامحها توحي بأنها من زمن ليس كزمننا، وتجاعيدها تحمل قدرا لا بأس به من المآسي والآلام، قدمتُ لها نفسي، وقالت لي بصوت حنون مازالت رنته تدغدغ أذني، ”مرحبا بأهل الرباط” أجلستني بالقرب منها، بعدما اعتذرت مني كونها لا تستطيع النهوض ولا الجلوس بسبب مرضها، والمدهش أنها رغم مرضها هذا اصرت على استضافتي ولو بفنجان قهوة، اعتذرتُ لها ورفضتُ بلطف فعرضت علي تحضيرها بنفسي، فالمطبخ مطبخي كما قالت، رفضتُ مقترحها مجددا فدعتني إلى انتظار إبنها حتى أتعرف عليه ويستضيفني بما يليق بي، للأسف لم تتح لي الفرصة لهذا اللقاء فالوقت لم يسمح بذلك.
 هذه السيدة تدعى أم أحمد المرأة الطيبة البسيطة التي أدهشتني بقدرتها على اقتحام قلبك من أول كلمة تنطق بها، امرأة طيبة إلى درجة لا تتصور،  كل شيء فيها يحيلك إلى أمهاتنا بطيبوبتهن وكرمهن وحنانهن، كنت أظنها فلسطينية من أصل مغربي فكل القاطنين هنا أصلهم من المغرب والجزائر وتونس ولببيا، لكنها فاجأتني عندما أخبرتني ان أصلها من مصر وزوجها الراحل كان جزائريا، وأنها بالضبط من الإسكندرية، كانت تستخدم مصطلحات مصرية خالصة، بل حتى القناة التي كانت تشاهدها وقت دخولي هي قناة مصرية. بالإضافة إلى روحها وطريقة كلامها وحركاتها، وكأنك تجلس مع سيدة وسط القاهرة، أخبرتها أنني كنت هناك في مصر قبل شهرين فاستفسرتني بلهفة عن أحوالها وأحوال أهلها، فهي – على ما أعتقد – لم تزر مصر قط فحديثها يوحي بذلك أو هكذا خمنت.
 كنت جد مرتاح في بيتها تحدثنا طويلا وبدون تحفظ، حكت لي عن أبي مدين الغوث وعن ذراعه المدفونة في الزاوية بفلسطين وعن ضريحه بتلمسان الجزائرية، حدثتني عن مغاربة فلسطين وعن أحوالهم وعن الخذلان الذي يعانون منه، حدثتني عن هذا الزمن وذاك…
 باختصار تحدثنا عن كل شيء  وفي كل شيء، ومن حلاوة الحديث لم أشأ ان اغادرها لكن للأسف الوقت لم يسمح فودعتها وودعتني ثم غادرت المكان بسرعة وأنا كلي حسرة على حاضرنا ومآلنا، وآخر ما علق بذهني خطوط القهر المتعرجة التي رُسمت على خديها بدموع عينيها.

#فؤاد #زويريق #أنا #في #أرض #أجدادي #بحارة #المغاربة #في #القدس

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد