فيلم ” باي الشعب”.. حينما أهدرت الفرصة الأولى للثورة في تونس

 يسرى الشيخاوي-   ثلاثة أيام تفصل تونس عن إحياء الذكرى العاشرة للثورة التي كُتمت أنفاسها وهي تتحسس خطاها الأولى نحو تحقيق أهدافها، هي الفرصة الثانية التي ضيعها التونسيون لإحداث إصلاحات جوهرية تمس الأصل لا السفاسف. وقبل ذكرى الفرصة الثانية المهدورة، عُرض فيلم ” باي الشعب” ليلقي الضوء على الفرصة الأولى التي تاهت وسط الشقوق، شقوق مازال أثرها قائما حتى اليوم يتجلّى في النعرات الجهوية والمحاباة والفساد بتمظهراته المختلفة.  “باي الشعب”، فيلم وثائقي روائي من تنفيذ شركة “فولك ستوري كمبوني” وإنتاج الجزيرة الوثائقية، إخراج امان الغربي وسماح الماجري وسيناريو شاكر بوعجيلة وتمثيل ياسين العبدلي وهشام بوزيد. في الفيلم شهادات لأساتذة في التاريخ توثق لثورة علي بن غذاهم مرورا بالنكسة الاقتصادية زمن حكم محمد الصادق باي وصولا إلى إجهاض الثورة قبل اكتمالها والثأر من الثوار، ومشاهد تمثيلية تحاكي تلك الحقبة الزمنية وتعود بالذاكرة إلى زمن هز فيه بن غذاهم عرش الباي. من الأحداث التي شهدتها تونس سنة 1864 نسج السيناريو ملامحه، وجاءت شهادات المؤرخين لتسرد تفاصيل بلوغ تونس شفا الانهيار في عهد محمد الصادق باي الذي أغرق في ملذاته وجعل من خزينة الدولة مرتعا لمذاته والزينة والهدايا التي يغدقها على القناصل والأجانب من ضيوفه. ضعف الباي وعجزه أحيانا عن اتخاذ القرارات واستحواذ وزيره مصطفى خزندار على الاستشارات بعد أن جرّده من المحيطين به لينعدم صوت الإصلاح ويجره بخطى ثابتة نحو التداين. في شهاداتهم المتطابقة، يروي المؤرخون والمؤرخات مراحل تشكّل الغضب الشعبي بعد تزعزع ركائز الإيالة التونسية الإدارية ومنها والاتقادية والسياسية واستشراء سوس الفساد في كل مفاصلها. ومع كل هذه الشرارات يأتي اتفاق جلب الماء من زغوان الذي ابتلع أموالا كثيرة حتى انه يوصف بـ” الاتفاق المنحوس” وتتعمق المشاكل الاجتماعية ويثقل الباي كاهل الشعب بالضرائب، ضرائب على الحبوب والزيتون وضريبة للإعانة تسمّى بالمجبى. فوارق جهوية أتى عليها الجانب التوثيقي في الفيلم إلى جانب الفقر والتهميش الذي وسم الأوضاع في تلك الفترة ليتأجج فتيل الثورة مع قرار مضاعفة  ضريبة المجلى من 36 إلى 72 ريالا وتعميمها على كافة السكان الذكور القادرين على عمل السلاح. في البدء كانت هذه الضريبة لا تشمل تونس والقيروان وسوسة والمنستير وصفاقس، أحد الأسباب التي غذت الفوارق الجهوية، ولكن مع ضرورة تسديد العجز في ميزانية الدولة امتدت أيادي المخازنية إلى هذه المدن. ووسط معاناة سكان الأرياف من مشاكل اخرى ناجمة عن الطبيعة كانت الضرائب المشطة السيل الذي أفاض الكؤوس وتجلت أمائر الغضب في صفوف متساكني الإيالة في جهات مختلفة وتبدّت علامات العصيان في الأوساط القبلية وبعض القرى والمدن. صور كثيرة عن الفقر والتسول والمجاعة ترتسم وسط كلمات المؤرخين وتعبد السبيل للثورة إذ انطلق الأمر برفض دفع ضريبة الإعانة وضريبة المكوس في الأسواق والاحتجاج ضد “المخازنية” و”الڨياد” و”اللزامة” و”المكاسة” وكل رموز الإيالة. “ماجر” و”الهمامة” و”الفراشيش” و”جلاص” وغيرها من القبائل سرى فيها الغليان وتحركت ضد الظلم والجور وزعزعت حكم الباي وكادت تطيح به لولا أن نجح النظام في شق صفوف الثوار.  تفاصيل كثيرة سردها المؤرخون منها انحياز “علي بن غذاهم” إلى الشعب وهو مردّ تسميته بـ”باي الشعب” الذي كانت نهايته موجعة مؤلمة بقدر النكسات التي عاشتها هذه البلاد المقاومة أبدا. السبوعي بن محمد السبوعي، والدهماني البوجي، وفرج بن دحر وولد الماشطة، ثوار وقفوا في وجه الباي إلى جانب علي بن غذاهم قبل ان يتفرق شملهم ويلاقون نهايات مؤلمة حينما اختلفت وجهات نظرهم. هي مناورة “ناجحة” من الباي انفرط معها عقد الثوار، وعود بالتغيير والعفو عن الثوار رأى فيها البعض تحقيقا لبعض من أهداف الثورة فيما رأى آخرون أنها غطاء للالتفاف على الثورة. ومع انفراط العقد واستمالة الباي لبعض الأطراف، كان فصل آخر من الثورة التي ماتت قبل الأوان وبدأت رحلة التنكيل بمتساكني القلعة الكبرى في الساحل وصلب بعض الثوار في سوسة ولم تعد المواجهة مع عسكر الباي تجدي نفعا وسار بن غذاهم ومن والاه إلى الجهة الغربية من البلاد قبل أن يغادر إلى الجزائر. ومع عودته متخفيا إلى تونس كانت بداية نهايته الموجعة، حيث غادر الإيالة التي خضعت فيما بعد للحماية الفرنسية واستقلت وصارت جمهورية أولى ثم جمهورية ثانية ولم يغادرها الفساد ولا المحاباة ولا الجهوية. في الفيلم أيضا، عود على دور الطرق الصوفية في أحداث ثورة علي بن غذاهم، وهو دور يحتمل أكثر من قراءة، ولكن الفيلم  حصرها في زاوية التخوين إذ التجأت الدولة إلى الزوايا للتخفيف من وطأة الغليان. طبقا لكلمات أحمد بن أبي ضياف التي تصف مشهد التنكيل بعلي بن غذاهم في بطحاء باردو بعد اعتقاله، جاء مشهد تمثيلي يحاكيها، إذ “أُوقف ببطحاء باردو وأحاط به المخازنيّة وغيرهم ممّن لا صناعة لهم من أوباش النّاس، هذا يضرب رأسه، وهذا يشتمه، وهذا يبصق في وجهه، وهذا ينتف لحيته، يفعلون ذلك تزلّفا للباي لأنّه بلغهم أنّه بروْشنه ينظر ذلك من حيث لا يرونه.” “هلّا أتيتم لي وأنا على فرسي، أمّا إذا أتيتكم بنفسي فلا فخر لكم والحالة هذه”، يقول بن غذاهم لبعض الأنذال في ذلك الموقف، وفق رواية بن ابي ضياف، ومواقف الإذلال لم تنته عند هذا الأحد بل تواصلت في سجن باردو وسجن الكراكة حيث انتقل إلى العالم الآخر. وفي فيلم ” باي الشعب” راوح السيناريو بين الشهادات التي توثق لثورة علي بن غذاهم وما سبقها وما تلاها وللمشاهد التمثيلية التي تعرض ملحمة الساحل ابان تفرق شمل الثوار وصلب بعضضهم واعتقال علي بن غذاهم. وفي بداية الفيلم بدت المعلومات التاريخية التي قدّمها المؤرخون مكثّفة ومتواترة دون مسافات تتيح للمتفرج استيعابها خاصة مع كثرة المتدخلين من المؤرخين، وهو ربما خيار من القائمين على الفيلم لضمان مصداقية أكثر وتطابق أكثر بين الوقائع والمعطيات المروية. ولكن كثرة المتدخلين من شأنها أن تعطي نتيجة عكسية وقد تكون مدخلا لتسرب الملل خاصة وأن بعض المداخلات تقاربت وتشابكت في نقاط بعينها، ولعل فكرة المزج بين الروائي والوثائقي في الفيلم كانت في محلّها. فالمشاهد التمثيلية التي نسج المخرج أمان غربي ملامحها تحوّل الحديث إلى صور تقرب الواقع في تلك الفترة إلى المشاهد وتكسر النسق الخطي لتواتر شهادات المؤرخين المدججة بالأحداث والوقائع. وبصرف النظر عن بعض الملاحظات المتعلقة بالديكور وبالأزياء وزوايا تناول أحداث ثورة علي بن غذاهم التي تستدر قراءات مختلفة باختلاف موضع التمعن فيها خاصة إذا ماتعلق الأمر بالسياسة، فإن تخصيص وثائق لحقبة مفصلية وحساسة في تاريخ تونس ضروري للتفكّر في تاريخ تونس. وفي الأثناء يستبد سؤال بكل الأفكار التي قد تراودك وأنت تشاهد الفيلم ” ماذا لو استكملت ثورة علي بن غذاهم مسارها؟”
المصدر

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد