في وداع عميد الصحافة الإفريقية

منذ 12 ساعة

حجم الخط

يعرف القراء التونسيون أن محمد بن إسماعيل كان الدينامو المحرك لأسبوعية جون أفريك، منذ أنشئت عام 1960 باسم أفريك أكسيون، وأن عبد الحميد كاهية كان مصورها الأول والأشهر، وأن السياسي محمد المصمودي كان من أهم أعضاء هيئة تحريرها وأن بورقيبة أقاله من الحكومة بسبب مقال البشير بن يحمد، «الحكم الفردي» الذي تطرقنا له الأسبوع الماضي. ويعرف الكثيرون أنه كان من كتابها في السنوات الأولى مناضل الثورة الجزائرية الشهير فرانز فانون، والصحافي جان دانيال (الذي أنقذه البشير بن يحمد من الموت عندما أصابه رصاص قوات الاحتلال الفرنسي أثناء معركة بنزرت) والأديبان الجزائريان كاتب ياسين وجان عمروش، وصحافيون تونسيون مثل البشير المهذبي وعثمان بن علية وعبد العزيز الدهماني وغي سيتبون أوّلا، ثم سهير بلحسن وفوزية الزواري وعبد العزيز البروحي ورضا الكافي في مراحل لاحقة. ويعرفون أن محمد الطالبي والحبيب بولعراس والشاذلي القليبي كانوا من المثقفين التونسيين الذين اتخذوا من جون أفريك منبرا لنشر مقالات الرأي، كما كان المخرج والناقد فريد بوغدير يكتب فيها عن شؤون السينما.ولكن لا أظن أن كثيرين يعلمون أن الأستاذ الأمين الشابي، أول وزير للتعليم في تونس وشقيق الشاعر أبي القاسم، كان من أوائل من كتبوا في أفريك أكسيون. إذ إن في مذكرات الشابي ذكرا لمقالات نشرها هناك بعنوان «أحاديث» وإشارات متعددة لصداقته مع بن يحمد ولعشاء أسبوعي معه وبقية أعضاء هيئة التحرير في بيت بن إسماعيل. كما أن فيها وصفا لمقر الجريدة المتواضع، في نهج الجزيرة، وغرفه الباردة غير المريحة، وحتى للسكرتيرة الصارمة القسمات. ومما يذكره الشابي، بتاريخ 26 أكتوبر 1960، أن مسؤولي أفريك أكسيون يتجنبون الخوض في كثير من شؤون تونس الداخلية خوفا من تكرر ما حصل عام 1958 لما منعت الجريدة بسبب دفاعها عن رئيس مجلس الوزراء السابق الطاهر بن عمار (الذي تفاوض مع فرنسا على الاستقلال الداخلي في أواخر عهد الباي) بعد أن أمر بورقيبة باعتقاله ومحاكمته بتهم كيدية. كما يشير، بتاريخ 5 نوفمبر 1960، إلى تضرر الجريدة من مناخ انعدام الحرية في تونس، وينتقد تواطؤ الديمقراطيات الغربية مع نظام تسلّطي في بلد حديث الاستقلال.

يعرف القراء التونسيون أن محمد بن إسماعيل كان الدينامو المحرك لأسبوعية جون أفريك، منذ أنشئت عام 1960 باسم أفريك أكسيون، وأن عبد الحميد كاهية كان مصورها الأول والأشهر، وأن السياسي محمد المصمودي كان من أهم أعضاء هيئة تحريرها

بدأت صلتي بجون أفريك منذ كنت تلميذا في الثانوية لأن خالي رحمه الله كان مواظبا على شرائها. وقد احتفظت بالعدد الذي أحيت فيه عشرينيّتها في أكتوبر 1980 لأنه كان يتضمن نص الحديث الذي أدلى به البشير بن يحمد للصحافي الشهير جاك شانسيل (الذي حاور على مدى العقود معظم أعلام السياسة والثقافة) في برنامجه الإذاعي «راديوسكوبي».ومما أذكره أن بن يحمد قال لشانسيل آنذاك إن تونس قد استوفت كثيرا من شروط النجاح في التحديث وإن مستوى التنمية فيها صار قابلا للمقارنة بالبرتغال. كان ذلك قبل 40 سنة. فانظر أين صرنا اليوم!في الخمسينية، قال بن يحمد إن ضرورة إدارة المجلة كمؤسسة اقتصادية، ملزمة بتحقيق الربح لضمان القدرة على البقاء، قد اضطرته إلى أن يكون صحافيا بنسبة الثلثين فقط. أما في الثلث الباقي فهو رجل أعمال. وليس الجمع بين الأمرين بالهينّ، إلا أنه سعيد بأن أوتي هذه الفرصة النادرة. ذلك أن نموذج الازدواج هذا قد اختفى من الإعلام منذ رحيل مؤسس لوموند هوبير بوف-ميري، الذي يعدّه بن يحمد أستاذا وملهما، ورحيل مؤسس مجلة الأكسبرس جان ـ جاك سيرفان ـ شريبير. أما مجلة لونوفيل أوبسرفاتور فقد كان يقودها الثنائي جان دانيال، في التحرير، وكلود بردريال، في الإدارة.كما اعترف بن يحمد بأن المجلة اضطرت، لضرورة النفاذ إلى الأسواق، إلى قبول تسويات مع بعض الأنظمة الدكتاتورية، مثلما كان الأمر في تونس أثناء حكم بن علي. وتمثلت التسويات في غض النظر عن كثير من الانتهاكات والمظالم، لكن حسب هذه القاعدة الصارمة: «جون أفريك لا تقول كل الحقيقة، لكنها لا تنشر ما يخالف الحقيقة». وصرح بكل نزاهة: إذا سئلت هل جون أفريك مستقلة تمام الاستقلال؟ فإني أجيب بالنفي. إنها مستقلة في حدود. لأنه لا وجود لاستقلال مطلق سواء تعلق الأمر بالصحف أم بالدول. وعندما حاورته نيويورك تايمز في 18 سبتمبر 1996 قال: عندما تكون فقيرا لا تكون حرا. ولهذا اضطررنا لمهادنة بعض الأنظمة.كان بن يحمد مدمنا على القراءة، وكان يتميز عن أبناء جيله من مثقفي المغرب العربي بإتقان الإنكليزية، حيث كان مواظبا على الفاينانشال تايمز والإيكونومست. قال عنه الشاذلي القليبي، بعد الإشارة لتكوينه في مجال الاقتصاد، إنه: يكتب بلغة متقشفة تجمع الوضوح إلى دقة التحليل السياسي. نهم ملتهم للكتب (..) يقول مساعدوه إنه عمول، بل محراث عمل. وعلى غرار كبار أرباب الصحف، دائما ما يكون هو أول من يصل إلى المكتب.
كاتب تونسي

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد