- الإعلانات -

- الإعلانات -

قراءة في العلاقة بين المركزية النقابية والرئيس بتونس

لا أحد في تونس يستطيع أن ينكر دور النقابات في مقاومة الاستعمار وفي إسقاط المخلوع، ولكن لا أحد ينسى أن المركزية النقابية كانت جزءا من منظومة الحكم منذ بناء “الدولة- الأمة”، وأنها كانت ركيزة من ركائز حكم المخلوع حتى آخر أيامه. فرغم سقوط مئات القتلى والجرحى، لم تعلن تلك المركزية النقابية الإضراب العام، كما فعلت فيما بعد زمن الترويكا لأسباب أقل قيمة، واكتفت بإضرابات جهوية حاولت أن تخفف بها غضب منظوري الاتحاد دون أن تدفع بأزمة النظام إلى الأقصى.

أما بعد الثورة فقد لعبت المركزية النقابية دور “الحليف الاستراتيجي” لكل ورثة المخلوع وحلفائهم، بدعوى ممارسة دورها “الوطني” الذي يتجاوز المستوى المطلبي المحض، لتتدخل في السياسة دفاعاً عن “النمط المجتمعي التونسي” ومكاسبه ضد القوى “الرجعية” و”الظلامية”.

ولفهم موقف المركزية النقابية من انقلاب 25 تموز/ يوليو وطبيعة علاقتها بالرئيس، بل علاقتها ببراديغم النظام الرئاسي منذ تشكل الدولة الوطنية، فإن علينا أن نتجاوز – من جهة أولى – التعريف التقليدي للاتحاد باعتباره جزءا من المجتمع المدني (في بعده النقابي)، وباعتباره “حكما” يقف في اللعبة السياسية بعد الثورة على مسافة واحدة من مختلف الخصوم، كما ينبغي علينا أن نستحضر – من جهة ثانية – أنّ الاتحاد كان منذ بناء “الدولة الوطنية” شريكا اجتماعيا لكل منظومات الحكم المتعاقبة، بل كان جزءا بنيويا من تلك المنظومات رغم ما يشوب “الشراكة” أحيانا من خلافات قد تبلغ درجة الاصطدام بالدولة وتحريك الشارع لمواجهتها، كما حصل سنتي 1978 و1984.

أعطى دورُ “الشريك الاجتماعي” للاتحاد هوية ملتبسة أو مركّبة، فهو طرف أساسي في تحديد السياسات العامة للدولة وشرعنتها. كان الاتحاد – في منظومة الحكم الاستبدادية – يتحرك باعتباره معارضةً “مدنية” معترفا بها، تشبه الحوانيت الحزبية التي شكلت الديكور الديمقراطي الصوري في تونس، أي كان جزءا من المعارضة الوظيفية التي هي أقرب إلى الحليف منها إلى الخصم أو العدو

لقد أعطى دورُ “الشريك الاجتماعي” للاتحاد هوية ملتبسة أو مركّبة، فهو طرف أساسي في تحديد السياسات العامة للدولة وشرعنتها. كان الاتحاد – في منظومة الحكم الاستبدادية – يتحرك باعتباره معارضةً “مدنية” معترفا بها، تشبه الحوانيت الحزبية التي شكلت الديكور الديمقراطي الصوري في تونس، أي كان جزءا من المعارضة الوظيفية التي هي أقرب إلى الحليف منها إلى الخصم أو العدو الذي يمثل تهديدا جديا للنواة الصلبة لمنظومة الحكم.

لم يكن الاتحاد جزءا من أجهزة الدولة ولم يكن أيضا خارجها، سواء بحضوره في مراكز القرار أو بدعمه لسياسات الدولة وباستهداف خصومها. لقد كان الاتحاد واقعيا أداة من أدوات الضبط والمراقبة التي كانت تعضد آلتي القمع الجسدي والفكري خلال لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية، خاصةً في حرب النظام المفتوحة على الإسلاميين وعلى جميع أصوات المعارضة الوطنية.

بعد الثورة استطاعت المركزية النقابية أن تستثمر نضالات النقابيين ودورهم الثابت في سقوط النظام لتدفع بمسؤوليتها السياسية والأخلاقية في نظام المخلوع إلى دائرة “اللا مفكر فيه”، أو دائرة ما يُمنع التفكير فيه أو التعبير عنه في وسائل الإعلام. ولذلك توجهت كل السرديات الثورية إلى انتقاد الفاعلين السياسيين (رموز النظام) أو الاقتصاديين (رجال الأعمال) والدعوة لمحاسبتهم، لكن دون تعميم منطق المساءلة والمحاسبة ليشمل شركاءهم “الاجتماعيين” في المركزية النقابية. كما استفادت المركزية النقابية من منطق “استمرارية الدولة” (وهو في تقديرنا جذر الانقلابات وأصل فشل الانتقال الديمقراطي) لتعيد إحياء تقاطعاتها القديمة مع أجهزة الدولة، بالتحالف مع واجهاتها الحزبية وأذرعها المدنية والإعلامية المتضررة من الواقع السياسي الجديد. وبذلك وجدنا أنفسنا أمام “تعامد وظيفي” (اعتماد متبادل) بين المركزية النقابية وبين أغلب مكونات المنظومة القديمة، الأمر الذي سينعكس على المشهد السياسي التونسي ويزيد في إرباكه وأدلجته، منذ أشغال “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي”، مرورا بالمجلس التأسيسي ومرحلة التوافق، وانتهاء بـ25 تموز/ يوليو وما أعقبها من مراسيم.

بعد الثورة استطاعت المركزية النقابية أن تستثمر نضالات النقابيين ودورهم الثابت في سقوط النظام لتدفع بمسؤوليتها السياسية والأخلاقية في نظام المخلوع إلى دائرة “اللا مفكر فيه”، أو دائرة ما يُمنع التفكير فيه أو التعبير عنه في وسائل الإعلام

قد يكون من اليسير علينا أن نرجع موقف الاتحاد السلبي من البرلمان إلى غلبة الطيف الإسلامي عليه (حركة النهضة)، كما قد يكون من الهيّن أيضا أن نردّ مساندة المركزية النقابية للرئيس إلى اشتراكهما في عداء الإسلام السياسي وحلفائه المحليين والإقليميين، ولكنّ هذا التحليل – على إغرائه – يظل سطحيا ويحتاج إلى تعميق.

فتاريخ الاتحاد مرتبط بالنظام الرئاسي، ومحاوره أو “شريكه السياسي” كان دائما قصر قرطاج لا قصر باردو (برلمان صوري بلا أي دور تشريعي أو رقابي حقيقي) أو القصبة (وزير أول هو مجرد مدير تنفيذي لقرارات الرئيس و”توجيهاته”). كما أنّ العقل السياسي المهيمن على المركزية النقابية (وهو مرتبط بسرديات شمولية يسارية وقومية وبيروقراطية تربّت على منطق عبادة الزعيم) يميل إلى محاورة سلطة ممركزة ومشخصنة. وإذا ما ربطنا بين ما تقدم (هيمنة خصم أيديولوجي على الديمقراطية التمثيلية وعلى النظام البرلماني المعدّل وهيمنة البراديغم الرئاسي على تاريخ الاتحاد ووعي قياداته المؤدلجة)، فإننا نفهم انحياز المركزية النقابية إلى الرئيس قيس سعيد بعد 25 تموز/ يوليو، رغم أنه لم يكن مرشحها المفضل قبل ذلك التاريخ، فقد كان مرشح المركزية النقابية هو عبد الكريم الزبيدي أحد رموز النظام القديم.

العقل السياسي المهيمن على المركزية النقابية (وهو مرتبط بسرديات شمولية يسارية وقومية وبيروقراطية تربّت على منطق عبادة الزعيم) يميل إلى محاورة سلطة ممركزة ومشخصنة

إن محاولتنا “عقلنة” موقف الاتحاد من الصراعات السياسية في تونس؛ لا ترفع إشكالا جوهريا يمكن أن نصوغه بالشكل التالي: بدفاعها عن الرئيس التونسي وإجراءاته – رغم إصراره على المضي “وحيدا” ودون أي “شريك” لتغيير النظام السياسي وتعديل الدستور – هل يمكن للمركزية النقابية أن تحقق مكاسب أفضل مما حققته خلال “العشرية السوداء”، أو أن تحافظ على موقعها التفاوضي القوي الذي وفّره لها ضعف المنظومة الحاكمة بعد الثورة، والذي سيتعرض إلى تهديد وجودي إذا ما نجح الرئيس في تحويل “مشروعيته” إلى شرعية “مدسترة” عبر استفتاء شعبي عام؟

رغم انحيازها الصريح للمنظومة القديمة بحكم تقاطع المصالح الرمزية والمادية بين الطرفين، تدرك المركزية النقابية أن تقاطع الرئيس مع تلك المنظومة ومع حلفائها الإقليميين لن يوفر لها أي ضمانة إذا ما ذهب هذا الأخير بمشروعه السياسي إلى نهاياته المنطقية (إلغاء الحاجة إلى الأجسام الوسيطة، أي إلغاء الحاجة ليس إلى الأحزاب فقط، بل الحاجة إلى جميع الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية بما فيها النقابات ومنظمات المجتمع المدني)، وهو ما يفسر إلى حد كبير اتخاذ المركزية مسافة نقدية من الرئيس دون السعي إلى إضعافه أو التحالف مع خصومه. ولا يعني ذلك إلا الضغط على ساكن قرطاج لتعديل بوصلته؛ بصورة تضمن تشريك الاتحاد في إدارة مرحلة الاستثناء وفي إعادة هندسة المشهد السياسي بعد تلك المرحلة.

الاتحاد سيظل مساندا للرئيس إذا ما رضي هذا الأخير بالوقوف عند مستوى تعديل النظام السياسي؛ دون أن يتحول إلى خطر وجودي على الاتحاد وحلفائه في الأحزاب والمجتمع المدني. ولكنّ المركزية النقابية ستنحاز إلى قوى المعارضة إذا ما أصر الرئيس على تنزيل مشروعه السياسي دون تقديم أي تنازلات

لا شك في أن الاتحاد – مثل أغلب مكونات المنظومة القديمة وحلفائها – يرغب في عودة النظام الرئاسي ولا يرى حرجا في مركزة السلطة وشخصنتها، بل لا شك في أنه يرى في انقلاب الرئيس فرصة للتخلص من حركة النهضة، أو على الأقل لتهميش دورها السياسي المرتبط بالنظام البرلماني المعدّل. ولكنه رغم هذا التقاطع المؤكد مع مشروع الرئيس في هذه النقطة، يدرك جيدا أن إقصاءه من هندسة المشهد السياسي القادم – مثلما وقع مع الأحزاب بما فيها أحزاب الحزام البرلماني للرئيس – سيجعله مجرد ملحق وظيفي بقصر قرطاج، بل قد يحوله إلى وسيط لا وظيفي يمكن الاستغناء عنه عند استواء “الديمقراطية القاعدية” على سوقها. وهو ما يعني أن الاتحاد سيظل مساندا للرئيس إذا ما رضي هذا الأخير بالوقوف عند مستوى تعديل النظام السياسي؛ دون أن يتحول إلى خطر وجودي على الاتحاد وحلفائه في الأحزاب والمجتمع المدني. ولكنّ المركزية النقابية ستنحاز إلى قوى المعارضة إذا ما أصر الرئيس على تنزيل مشروعه السياسي دون تقديم أي تنازلات.

إننا أمام فرضيتين لا يمكن ترجيح إحداهما في الوقت الحالي بصورة يقينية، وإن كنا نميل إلى أن خراج الصراعات كلها لن يذهب إلا إلى خزائن المنظومة القديمة؛ ما دام الاتحاد هو المحدد الأساسي لمخرجات الأزمة الحالية كما كان في جميع ما سبقها من أزمات دورية.

twitter.com/adel_arabi21

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “عربي21”

#قراءة #في #العلاقة #بين #المركزية #النقابية #والرئيس #بتونس

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد