- الإعلانات -

- الإعلانات -

لماذا يكره بعض العرب العلمانية؟ – جورج فهمي

نشر فى :
الإثنين 8 فبراير 2021 – 7:00 م
| آخر تحديث :
الإثنين 8 فبراير 2021 – 7:00 م

لا تحظى العلمانية بسمعة طيبة فى مجتمعاتنا العربية. مردّ تلك السمعة السيئة لا يرجع إلى الخلاف الفكرى حول مفهوم العلمانية، ولا يعود كما يدّعى البعض إلى طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية، بل إن المسألة أبسط من ذلك، فالسبب هو تجربة مجتمعاتنا العربية مع هذا المفهوم، وما ترتّب عليه من آثار سلبية.تحكى لى صديقتى التونسية عن ذكرياتها خلال حكم نظام زين العابدين بن على عندما أُجبِرَت على عدم أداء امتحان البكالوريا (الثانوية العامة) بسبب ارتدائها الحجاب. فقد عمد النظام التونسى السابق منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضى وحتى بداية الألفية الثانية، إلى التضييق على الممارسات الدينية لقطاع كبير من التونسيين لداعى الحفاظ على مدنية الدولة فى وجه التيارات الإسلامية. كان على صديقتى أن تختار إما أن تخلع حجابها لتدخل إلى الامتحان، وإما أن تتخلّى عن أداء الامتحان، ومعه عن فرصة استكمال الدراسة الجامعية مقابل الحفاظ على ما تراه فرضا دينيا. فاختارت الخيار الثانى. لم يكن المنع من أداء الامتحانات هو التضييق الوحيد، فقد تعرّض الكثير من السيدات المحجّبات خلال تلك الفترة لصنوف متنوّعة من التضييق، بدءا من منعهنّ من دخول أى إدارة عامة لقضاء شئونهنّ، وصولا إلى توقيفهنّ فى الطريق العام واصطحابهنّ إلى مراكز الشرطة.إضافةً إلى التضييق على ممارسات الأفراد الدينية لدواعى الحفاظ على مدنية الدولة كما هى الحال فى تونس تحت حكم بن على، فإن مفهوم العلمانية ارتبط أيضا فى منطقتنا بإنهاء استقلال المؤسسات الدينية، ووضعها تحت السيطرة الكاملة لمؤسسات الدولة. فبعد إلغاء الخلافة الإسلامية وقيام الجمهورية التركية فى العام 1923، دار نقاش حول دور المؤسسات الدينية فى الجمهورية التركية الجديدة. وبينما طالبت بعض الأصوات بأن يكون الدين أمرا يخصّ حياة الأفراد الخاصة بدون تدخّل من الدولة، طبقا للتجربة العلمانية كما عرفتها بعض المجتمعات الأوروبية، كان المشرّعون فى الجمهورية التركية مقتنعين بأن غياب طبقة رجال الدين فى الإسلام يجبر الدولة على إدارة الشئون الدينية بنفسها، حتى لا تسعى بعض القوى السياسية إلى استغلال الدين من أجل تحقيق أهدافها. فكانت مفارقة الجمهورية التركية، وهى مفارقة مستمرّة إلى الآن، ذلك أن الدستور التركى ينصّ صراحةً على علمانية الدولة، إلا أن هذه الأخيرة تضع فى الوقت عينه المجال الدينى بالكامل تحت سيطرتها، من خلال مؤسسة رسمية هى رئاسة الشئون الدينية. لم تختلف الدول العربية بعد الاستقلال عن النموذج التركى، إذ فهمت الأنظمة السياسيةالفصل بين الدين والسياسة على أنه وضع الدين تحت سيطرة الدولة، فقامت بإخضاع المؤسسات الدينية بالكامل لسلطتها. ففى مصر وتونس قام كلٌّ من عبدالناصر وبورقيبة بإنهاء استقلال الأوقاف، وبينما سعى عبدالناصر إلى إحكام سيطرة الدولة على الأزهر الشريف من خلال القانون رقم 103 للعام 1961، اختار بورقيبة تفكيك جامعة زيتونة، فأغلق نظام التعليم الزيتونى مستبدلا إيّاه بكلية الشريعة فى جامعة تونس.لكن وإن كانت تجربة منطقتنا التاريخية مع مفهوم العلمانية سلبية، فإنها لا تعبّر عن التجارب المختلفة للعلمانية فى مناطق أخرى من العالم، ولا عن كيف تطوّر النقاش حول هذا المفهوم خلال العقود الأخيرة.***شهد مفهوم العلمانية فى الغرب مراجعات واسعة منذ سبعينيات القرن الماضى مع ما سُمّى «بعودة الدين» إلى الحياة العامة بعدما تنبّأ البعض بنهاية الدين فى الغرب. أربك تنامى دور الدين فى حياة الأشخاص الخاصة، ودور المؤسسات الدينية فى الشأن العام، الكثير مما اعتبره العلمانيون من المسلّمات. ففى حين رأى بعضهم فى العلمانية مرادفا لتراجع دور الدين فى حياة الأفراد كلما صارت مجتمعاتهم أكثر تطوّرا، لم يستطع هذا الرأى أن يفسّر كيف للولايات المتحدة، وهى من أكثر المجتمعات تقدّما فى الغرب، أن تسجّل فى الوقت نفسه أعلى معدلات التديّن. تدارك آخرون هذا الأمر مؤكّدين أن العلمانية لا تتعلق بالممارسات الدينية الفردية، بل تعنى أن تظلّ الممارسات الدينية فى المجال الخاص، بينما يبقى المجال العام خاليا من أى مظاهر أو أفكار دينية. إلا أن تلك الفكرة تعرّضت أيضا لانتقادات واسعة بعد عودة الدين إلى المجال العام بشكل واضح خلال الثمانينيات من خلال دورٍ أكبر للمؤسسات الدينية كالفاتيكان، والأفكار الدينية كلاهوت التحرير من جانب، وصعود تيارات اليمين المسيحى من جانب آخر.أدّت هذه التطورات كلها خلال العقود الأخيرة بالكثير من علماء الاجتماع إلى إعادة التفكير فى مفهوم العلمانية فى الغرب، وكيف يمكن إيجاد صيغ جديدة لفهم العلاقة بين السياسى والدينى. فظهر تيارٌ واسعٌ بات لا يرى فى ارتفاع معدلات التديّن فى المجتمع تهديدا للدولة الحديثة، أو فى انسحاب الدين تماما من المجال العام ضرورةً لضمان الديمقراطية، بل يرى أن العلاقة الصحية بين الدين والدولة هى تلك التى تضمن التمايز بين مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية من دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وهذا ما عبّر عنه أحد علماء الاجتماع الأمريكيين بمفهوم «التسامح المتبادل» بين مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية، فلا تسعى المؤسسات الدينية إلى السيطرة على الدولة، وتقبل بشرعيتها، وفى المقابل لا تسعى الدولة إلى السيطرة على التنظيمات الدينية، وتقبل بحقّها فى التعبير عن أفكارها فى المجال العام.***يكره بعض العرب تلك النسخة من العلمانية التى اختبروها منذ عقود، تلك العلمانية التى أنهت استقلالية مؤسساتهم الدينية، وتعدّت على حقوق بعضهم الشخصية فى ممارسة شعائرهم الدينية. إلا أن تلك التجربة تعبّر فقط عن فهم نُخَب ما بعد الاستقلال لمبدأ فصل الدين عن السياسة، وتتجاهل التطوّر الذى شهده هذا المفهوم سواء فكريا أم على مستوى التطبيق السياسى خلال العقود الأخيرة. لقد تخطّى علماء الاجتماع الكثير من التصوّرات القديمة لمفهوم العلمانية، التى بدت وكأنها فى عداء مع الأفكار والمؤسسات الدينية، وصولا إلى ما أسماه عالم الاجتماع الأمريكى ألفريد ستيبان «التسامح المتبادل» بين الدولة والدين. وعالمنا العربى أيضا يجب ألا يكون بعيدا عن تلك النقاشات، إذ علينا نحن أيضا أن نعيد التفكير فى مفهوم العلمانية بصيغته الجديدة، التى لا تحمل بالضرورة عداءً للأفكار وللمؤسسات الدينية.

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد