حالة الاستعصاء على التغيير في المنطقة | د. كمال القصير

حيثما نظرت في العالم العربي وجدت حالة الاستعصاء على التغيير في السياسة والاقتصاد وأحوال البشر.
إن جيلا عربيا كاملا يتشرب ثقافة الاستعصاء في الوقت الحالي، بما يجعل التعامل مع هذا المعطى الشعوري والاجتماعي أعقد بكثير من مقاربة الأمر من ناحية فكرية أو سياسية خالصة. إننا نجد صعوبات كبيرة عندما يسعى بعضنا إلى تغيير أفكار البعض الآخر، حول قضايا التاريخ والإنسان والمستقبل.
لا نستطيع تغيير الأشياء في منطقتنا بسهولة، وغالبا ما نفشل في ذلك. حيث تبدو الأشياء والأوضاع الجديدة مستعصية.

الإنجازات الرياضية

أصبحت الإنجازات الرياضية بالنسبة للوعي العربي الجماعي، بديلا واقعيا عن الخسارات النفسية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات.
إنها أرض وساحات المعارك البديلة والافتراضية، لساحات المعارك الحقيقية التي لا نخوض غمارها. لكن الرياضة وليست السياسة أو الاقتصاد أو الأيديولوجيا، هي ما بدد جزءا من شعوري النفسي الحالي بحالة الاستعصاء في المنطقة، وأنا أتابع مثل باقي العالم، تجربة قطر الرياضية بأبعادها الثقافية العالمية، واستثنائيتها شعوريا.

الإمكان نقيض الجمود

نشأت اليقظة والصحوة في المنطقة في بداية القرن الماضي على المستوى الشعوري بالإمكان، قبل المستوى الفكري والسياسي.
لقد تعددت مشاريع الخروج من حالة الاستعصاء طوال القرن الماضي، دون أن يتمكن أحدها من تأسيس أي قاعدة للتغيير في العالم العربي. فلم تكن القومية ولا اليسار ولا الإسلام السياسي حلولا.
إن تضخم وغلبة الخطابات والشعارات على نحو واسع لدى التنظيمات على اختلافها، غالبا ما يكون نتيجة وانعكاسا لحالة الاستعصاء، التي تواجهها خلال تعاملها مع الواقع، ويصعب عليها تغييره. بل إن حالة الاستعصاء قد انتقلت من الواقع الموضوعي إلى التنظيمات نفسها، على مستوى بنيتها الداخلية ورؤيتها العامة.
لم تعد في المنطقة في الوقت الحالي مساحات للاستمتاع بأي نزوات أيديولوجية، وفي حالة الاستعصاء يكون باستطاعة المجموعات فقط أن تضع أهدافا قابلة للتصور لا التطبيق، فما هو مرغوب لا يعني أنه عملي.

الثورات العربية

إن الثورات العربية لم تتخذ شكلا متماسكا، وتمثل نتائجها النموذج المكتمل لحالة الاستعصاء على الإصلاح، وحتى الثورات الناجحة ليس بالضرورة أن تخلق ديمقراطيات. وبالمحصلة فإن العالم العربي قد بقي هو نفسه من دون تغيير كبير.
ففي هذه المنطقة تتحدى الجماهير الأشخاص والقيادات، أكثر من تحدّيها لمبادئ وأساليب السلطة.
تمثل ثقافة الإمكان النقيض لدينامية الاستعصاء. وقد كانت المجموعات والقوى الفاعلة في المنطقة تبشر بالحلول، لكنها لم تنجح في تصور حدود الإمكان في مواجهة الاستعصاء.
إن الشعارات والحلول تصبح بلا معنى، إذا لم تستوعب دينامية الإمكان تصورا وفعلا. وعندما نتأمل في الكثير من الحلول التي طرحت سابقا، نجد أنها لم تكن حلولا، بل مجرد أفكار تجريدية.
الأيديولوجيا الإسلامية القوية تنبثق من الجواب في عالم الاقتصاد لا الأخلاق أو التاريخ فحسب. وعندما سأل الناس الزعيم السوفيتي لينين عن معنى الشيوعية في إحدى المناسبات، أجابهم أنها تعني حصول المواطن على الكهرباء في عموم البلاد وتوزيع الثروة.
لقد كانت تلك الكلمات هي العقيدة التي اجتاحت العالم. إن مفهوم التوافق بين القوى السياسية ليس حلا في ذاته، إلى أن يصبح ممكنا. وبغير الإمكان فإن التوافق يكون مندرجا في حالة الاستعصاء. وما هو ممكن حقيقة هو ما يصبح حلا في النهاية، وليس العكس.

المجموعات الإسلامية

الكثيرون لم يميزوا بين كون إقامة دولة إسلامية حلا، وكون ذلك ممكنا. لقد كان سبب فشل المجموعات الإسلامية في مناسبات عديدة، هي الحلول لا المشكلات.
وعندما ننظر إلى تطبيق الشريعة ومبدأ التدافع في المنطقة، فإنه ينبغي النظر إلى ذلك من منظور الإمكان وحدوده، لا من منظور الحلول المجردة. وكثير من تطبيقات الاقتصاد الإسلامي على محدوديتها، خرجت من كونها مجرد حلول نظرية إلى الواقع، بسبب ظهور مؤسسات الإمكان، التي واجهت تحديات كبيرة لتنقل فقه الأموال من الحلم النظري إلى الممكن العملي. إن عملية الاجتهاد في عمقها، هي تحويل للحلول النظرية الافتراضية إلى ممكنات عملية.
تمر صناعة المستقبل بالضرورة عبر ثقافة الإمكان. كما أن الممكنات هي الحلول الحقيقية. وإدراك الممكنات وحدودها هو ما يكشف زيف الشعارات وخداع الحلول البراقة.
إن ثقافتنا مفرطة في الحديث عن الحلول، لكنها أضعف ما تكون في تصور مجال الممكنات السياسية والدينية. وأذكر خلال متابعتي لحملة الرئيس السابق باراك أوباما، التي كان شعارها yes we can أن ذلك الشعار كان العنوان الواقعي للبرامج السياسية والاقتصادية.

دينامية الإجماع

تحدث حالة الاستعصاء على التغيير في التاريخ الإسلامي عندما تختفي دينامية الإجماع السياسي، وتفقد تأثيرها على السلوك الاجتماعي. وفي لحظة خسارة سلطة الإجماع لا يصبح مفهوم الأغلبية والأقلية معيارا حاسما في تدبير الدول والمجتمعات.
إن أهم ما فقدته المنطقة منذ مائة عام على ظهور الدولة الوطنية بحدودها الحالية، هو الإجماع الذي ظل إطارا سياسيا ووعيا وشعورا مجتمعيا. وبفعل انهيار الإجماع مع سقوط آخر أشكاله السياسية مع الدولة العثمانية، فقدت كل التعبيرات العرقية والطائفية والثقافية الأقلية الإطار العام، الذي كان يمنحها إمكانية التعايش في المنطقة دون شعور بالرغبة في زعزعة وخرق قواعد التفاهم والتوافق.
لقد أصبحت ردود أفعال المغلوب وسلوكه المدمر في أي عملية تغيير أو إصلاح جزءا من الثقافة السياسية والسلوك النفسي لدى الأفراد والمجموعات.
وباتت تمثل الاستثناء الذي يتحكم في القاعدة ويحرمها من كل قيمة وفاعلية. إن خرق القواعد هو الحل الذي لا تجد المجموعات المغلوبة والأقلية غيره للحياة والاستمرار. هكذا تمضي الأمور في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا وتونس وغيرها.
وقبل مائة عام برز إلى الوجود نموذج الدولة العربية، وولدت معها مجتمعات تمتلك حدودا ثقافية وشعورية جديدة، في مرحلة ما بعد الانهيار العثماني، وولدت معها أيضا بذور الاستعصاء منذ البداية.
إن حالة الاستعصاء على التغيير مرتبطة بطبيعة تشكل الدولة العربية وبنيتها المتمنعة على التغيير، وعدم قدرتها على معالجة المشكلات الطائفية والعرقية والثقافية والسياسية والاجتماعية. إن التغيير في دولة مثل سوريا يستعصي وترتفع تكلفته إلى حد مخيف، بسبب مشكلة الولادة خارج قانون الديمقراطية وتغلب الأقليات على الأكثرية.
إن عقلية وسلوك المجموعات الصغيرة تعتبر تحديا كبيرا في المنطقة بسبب عدم قدرتها على إنتاج سلوك توافقي. حيث تتصرف تلك المجموعات بمنطق الأغلبية في أغلب الأحوال، عندما تفرض عليها لغة الأرقام ونتائج الانتخابات ومنطق توزيع السلطة عكس طموحاتها.
ومن ناحية أخرى ينتج الاستعصاء لدى المجتمعات العربية حالة تشويش في الرؤية، بين النزعة المحافظة والرغبات الليبرالية. فهي لا تستطيع أن تكون إحدى الحالتين، لكنها تبتكر خلطات وتلفيقات تزيد من تعقيد الرؤية لديها. نريد أن نكون ليبراليين في السياسة والاحتكام إلى الديمقراطية والانتخابات، لكننا نأبى أن نكون ليبراليين في قضايا الحريات والقيم.

توطيد حالة الاستكانة

ينتج الفشل المتواصل وطول زمن الاستعصاء حالة استكانة، وتعايش مع الواقع دون محاولة تغييره. في هذه اللحظة يتحول الاستعصاء إلى نموذج ثقافي وسياسي تتم رعايته، ليحدد للقوى السياسية والاجتماعية حدودا بالغة الضيق للحركة، ويرسم لها خطوطا حمراء، لا تتجاوزها تنظيرا وممارسة. ويصبح على قوى المنطقة وفق نموذج الاستعصاء ألا تتجاوز السقف الممكن، وتلتزم خطا إصلاحيا بحد أدنى كبير، فلا شيء سوف يتغير رغم كل المحاولات.
إن الشعور العام في المنطقة بعدم جدوى التغيير والإصلاح ناتج عن جعل حالة الاستعصاء ثقافة عامة، وجزءا من بنية التفكير لدى المجتمعات. ويعتبر الشعور باستعصاء الإصلاح سببا مباشرا في تنامي موجة الارتماء في عالم اللاجدوى. ويخطئ من يعتقد أن حالة الاستعصاء في المنطقة تقتصر على السياسة والسلط. إنها حالة ممتدة إلى عمق الاجتماع العربي والإسلامي، باعتبارها حالة شعورية وسلوكية عامة.

كاتب مغربي

#حالة #الاستعصاء #على #التغيير #في #المنطقة #كمال #القصير

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد