الفردوس المفقود – الشروق أونلاين

التحرُّكات المشبوهة لفرنسا وداعميها في الجزائر من فصائل انفصالية، منفصلة عن الواقع، تحيل إلى تاريخ مليء بالمناورات والدسائس التقسيمية التخريبية لعناصر الهوية والانتماء الجزائري.لقد كانت القضية الفلسطينية مثلا، هي المقياس الحراري الذي نقيس به انتماءنا الحضاري في الشمال الإفريقي عموما والجزائر خصوصا، وكلما نزعت منطقة نحو عكس اتجاه الهوى الشعبي، اقتربت من هوى فرنسا ونظرائها في الجهة الأخرى المعادية لفلسطين، والمتمثلة في  الصهيونية.هذا الموقف هو ما دفع “جون بول شانوليو” لكي يؤكد بأن “موقف الوطنيين الجزائريين منذ 1930، كان موقفا في غاية الالتزام وفي غاية الصرامة مع القضية الفلسطينية ماداموا أنهم كانوا يشعرون بمثل ما كان يشعر به الفلسطينيون من فقد للهوية”، ويذهب إلى التأكيد بأن هذا الموقف أساسه موقع فلسطين في قلب العروبة، مما يعطي البُعد الديني -اللغوي- الوطني قوَّة فعَّالة فيتّخذ هذا الموقف الصارم، وهو ما لم نجده عند المغاربة والتونسيين الذين كان موقفهم أكثر ليونة، حسب تعبيره.هذا الموقف الصارم والملتزم -الذي يتحدث عنه “ج. ب. شانيولو”- مقارنة مع الموقف المغربي والتونسي، لا يمكن تفسيره إلا بذلك التفسير الذي قدَّمه “شانوليو” المتمثل في الإحساس الذي ينتاب الجزائريين -لاسيما نخبة المثقفين الإصلاحيين والأنتلجانسيا الدينية– السياسية، التي ظهرت بداية من هذا القرن- بذلك العمل التخريبي للبنية الهوياتية الجزائرية على مختلف الأصعدة، الشيء الذي لم يعرفه المغرب ولا تونس، على الأقل بنفس الحدَّة ونفس الدرجة في العنف والتصميم لطبيعة “نظام الحماية” الذي عرفته كل من تونس والمغرب والذي سمح لنظام “المخزن” أن يستمرَّ في الحياة ولو تحت رحمة إدارة المقيم العام، لكنه لم يندثر كلية. على العكس، حافظ النظام التقليدي على أسسه وبناه ونظمه في عمل يبدو موازيا لنظام الإقامة العامة، وهو ما يفسِّره فشل مشروع “الظهير البربري” بالمغرب الأقصى سنة 1930.السياسة الفرنسية تجاه المغرب وتونس، تختلف عن تلك السياسة التي اتُّبِعت في الجزائر، ذلك أن الجزائر إنما احتُلَّت احتلالا عسكريا وحُوِّلت إلى “جزء لا يتجزَّأ من فرنسا”، تخضع لنفس الدستور الميتروبوليتاني ونفس القوانين الفرنسية ملكية كانت أو إمبراطورية أو جمهورية، إن لم يكن بطريقة أسوأ باعتبار أن ما كان يُطبَّق على الجزائريين من القوانين الردعية. أما النفعية المخصَّصة ضمنيا “لفرنسيي الجزائر” فقد كانوا يستفيدون منها لوحدهم. هكذا كان نظام لائكية ومجانية وإجبارية التعليم ولائكية النظام السياسي وديمقراطية النظام البرلماني، عناوين سياسية لا تجد واقعا لها إلا في نقضها عندما يتعلق الأمر بـ”الأهالي”، في حين أن هذه القوانين طُبِّقت على فئة اليهود الذين استفادوا من امتياز اعتبار اليهودي مواطنا فرنسيا كامل الحقوق، وهذا منذ 1871، تاريخ قانون كريميو، الذي منح لليهود حق اكتساب الجنسية الفرنسية كامتياز من دون بقية السكان الأصليين للجزائر إلا في حدود جدّ ضيقة مسَّت بعض الأعيان والأرستقراطية الدينية- الفلاحية المرتبطة مصلحيا بالنظام الكولونيالي.فرنسا، حتى بعد الاستقلال الوطني، عمدت إلى تحريك أياديها وألسنتها وبراثنها في الجسد الجزائري الجديد، ولا تزال، محرِّكةً للحركات الانفصالية في الشمال تارة، مغذّية للنعرات الجهوية والقبلية واللغوية، مجنِّدة لقوى مناوئة في الجنوب، راعية لتوسُّع نظام المخزن، باعتباره حديقة فرنسا الخلفية وممرّها نحو قلب إفريقيا. هكذا، كان دأبها، تعمل من خلال أذرعها في الداخل بتحريك من الخارج، لأغراضٍ مستقبلية أساسها تاريخي ويتمثَّل في الأسى والحسرة والندم على الفردوس المفقود.

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد