المرثيّة في حقّ أمير الفرح  (2 من 2)

إذا كانت كدوة العزيزية مسقط رأس فارس المرح رضوان، فإن أويا الزمان هي مقرّ إقامته. أمّا بيته فهو شارع الاستقلال حرفيّاً. وليس على من شاء أن يلتقيه إلّا أن يرابط في أحد مقاهي هذا الشارع الأنيق، لكي ينعم بحضور شبح رضوان في كل لحظة. فهناك مقهى زرياب حيث يرابط طريبشان، وبعد خطوات يقع مقهى «فيدات» حيث يقبع المحروق، ثم خطوات أخرى تستلقي «أورورا» معقل القويريان: عبد الله ويوسف، وفرض رضوان أن يحجّ إلى حرم هذا الثالوث كل يوم، بل عشرات المرات في كل يوم، كأنه يمارس طقساً، أو يؤدّي فريضة صلاة. وقد اعتاد أن يهرع لأداء هذا الواجب كلّما عاد من رحلاته الغامضة إلى الخارج، لأن شارع الاستقلال، بالنسبة لرضوان، لم يعد مجرّد مكان، ولكنه صار، لسببٍ مّا، هو العنوان؛ ربما بسبب الشغف بالجمال. جمال الواقع الحضري، المترجم في حرف عمران الحاضرة، لا في أناقة البنيان وحسب، ولكن في حسن الحسان أيضاً. ففي هذا الدرب يروق فاتنات الجالية الإيطالية أن تتسكّع كل يوم، سيّما في الأمسيات، ليتحوّل الشارع مهرجاناً لعرض الأزياء، وساحةً لاستعراض فتنة القوام، طوال ستينيات القرن، التي كانت حقبة ذهبية في واقع الزمن الضائع. قبل أن يهيمن شبح الايديولوجيا ليقتلع هذا المكوّن الثقافي من واقع الوطن الجغرافي. ورضوان، بهذا الإدمان النبيل، هو جزء من تاريخ هذا المكان، بل هو هوية لهذا المكان، فحقّ للمكان أن يستعير حجّته في الانتماء، فيعتنق إسم الإنسان الذي كان له المكان بمثابة عنوان، ليصير فحوى المكان. وهو ما لا نستطيع أن نأمله في واقع وطنٍ جاحد في حقّ الأبناء، بقدر ما هو سخيّ في حقّ الغرباء! وأذكر كيف دخلتُ في معركة على صفحات الجريدة مع بلدية طرابلس عام 1969 بسبب هذه النزعة الجائرة التي تفضّل أن تطلق أسماء أنواع الزهور على شوارع المدينة، كأنّ البلاد بلغت في الإفلاس الروحي منزلةً اضطرّتها لأن تبخل بأسماء رموزها الوطنية على ميادينها وشوارعها، لتجود بها على عنصر بيئي ليس في حاجة لخلود، لأنه خالد بهوية انتمائه إلى طينة الطبيعة الأم، كما الحال مع الأزهار، فكيف تتنازل هذه العقلية عن جهلها، فتعترف أخيراً بوجوب ردّ الإعتبار لرموزٍ لم يخلُ منهم الوطن يوماً؟

 ولكن ليس هذا ما يمكن أن يعني إنساناً بهوية الطيف، بالمقارنة مع قدرته على استزراع الفرح، فلا يحلّ في واقع دون أن يهبه مُلحة طازجة، أو نكتة، هي غالباً من تأليفه، لأن المرح في يقينه هو ترياق الإحساس التراجيدي بألم الحضور قيد الوجود؛ لأنه الانسان الذي سخّر حياته كلها لكي تكون للجيل درساً يختزل التجديف في حقّ الوصية اللاتينية القائلة: «تذكّر الموت»، ليجري استبدالها بالوصية الأخرى القائلة. «إقتنص اللحظة»، تلك اللحظة التي يعجزنا أن نقتنصها، ما لم تكن مشفوعةً بنكتة، أو ملحة، أو طرفة، من شأنها أن تستحضر في واقعنا الفرح! فالمستقبل، الحامل لجرثومة القلق، هو ما لا وجود له في عرف رضوان. لا وجود لمستقبل، بسبب غياب ما ندعوه في معجمنا بإسم الأمل. لأن من لم يستسلم لكي يأمل، وحده حصّن نفسه من شقوة، بترويض النفس على التأمّل؛ التأمّل البديل الشرعي للأمل؛ لأن التأمّل بطولة الحضور في الحرية، أمّا الأمل، فاغترابٌ في طلب فراديس البُعد المفقود. والسعادة رهينة التخلي، بقدر ما البلبلة رهينة الطلب. الطلب من شأن القطب، أما أمثال رضوان، في المهزلة الدنيوية، فوحدهم يستمرئون دور الدرويش.

كم هو عسيرٌ أن نؤذي الإنسان الذي لا يريد في دنياه شيئاً. وروح الزهد في النموذج الرضواني أقوى دليل على ذلك. فهو إنسان بلا حسابات. ليس معنياً لا بربح ولا بخسارة. لا يهمّه أن يخلو جيبه حتى من قُوْت، ولا يسعده أن تعترض سبيله غنيمة. بل ما يثير  شكوكه بالذّات هو ما يبدو في نظرنا غنيمة.

فهو حقّاً ديوجين الحداثة بامتياز. لا وجود لقيمة دنيوية في تجربته، لأن الفرح في يقينه هو رأس المال، الذي لا يحتاج لأموال. ولهذا السبب هو دوماً مشفوعٌ بالمرح. لأن ما هو الفرح إن لم يكن حرية المحدود، حرية الوجود؟ وما هي الحرية إن لم تكن فرح اللامحدود، فرح الخلود؟ ولهذا لن يدهشنا أن يستعير الفرح، في حياة هذا المُريد، بُعد المعبود. فلم يحدث أن التقيته يوماً عابساً. فالبشاشة تسري فيه لتحلّ معه حيثما حلّ. إنه جدير بحقّ بأن ينافس الأمير ميشكين، ذلك الدرويش في رواية «الأبله» لدوستويفيسكي، التي خاطب الناشر بشأنها قائلاً أنه قرر أن يكتب عملاً تنويرياً في حقّ «الإنسان الجميل». ولم يخطيء عرّاب حقيقة إنسان الوجود في ترجمة هذا التعبير البسيط. وهو الذي تغنَّى بالجمال القادر وحده على إنقاذ العالم. والإنسان البريء، وحده المسكون بالله، كما الأمير ميشكين، أو رضوان أبو شوشة، برغم أن هذا الإنسان سيبدو في عالمنا أبلهاً بالطبع، نحن المشبعون بالقوانين الوضعية، التي ليس لها أن تعترف بالعفوية ديناً. فكم مرّة أغلظتُ لهذا الملاك القول، لكي أقمع فيه شطط شطحٍ، فيه طبيعة، فلا أندم وحسب في الحال، ولكن تبكيت الضمير كان قصاصي، لأن رضوان لا يمهلني كي أكفّر عن آثامي باعتذارٍ إليه. إنه الطفل الذي ينسى الإساءة في لحظة، فلا يمنحك فرصة للتوبة. ولا أحسب وجود قصاص يمكن أن يقارن بالألم الناجم عن غياب الفرصة للتكفير عن خطيئة في حقّ ملاك!

 ففي 2001 م، عندما كنت أعاند المرض في مستشفى بجنيف، هاتفني شقيقي موسى ليخبرني برحيل الطيف الآخر، جيلاني  طريبشان، المفاجيء. وعند حلولي بالوطن بعدها بشهور حدّثني رضوان برؤيا شاهد فيها شبح الموت يحوم حولي، ولكنّه ارتدّ فجأة ليتّجه نحو جيلاني، برغم أنه لم يعلم بوجودي رهين المرض في المستشفى آنذاك، في وقتٍ كان يعاند فيه لوحة أطلق عليها إسم «الكوني والزمن»، التي بعث بها إليّ في عزلتي أمانةً مع شقيقي آلة. والواقع أن المنعطف الذي تخلّى فيه عن القلم، ليستبدله بالفرشاة، لم يدهشني، وهو المهووس بالتشكيل منذ بدء تجربته الإبداعية، كما شهدت بذلك محاولاته المبكّرة في استجواب أسرار «الشكل الفنّي» في الصحافة الوطنيّة بالستينيات. وهو ما يعني أنه إذا أخفق بحجّة الكلمة، عاد على عقبيه ليستكشف الظلال في بصمات آثاره الأولى، كما يليق بكل مسكون بجنين لم يجد للتخلّص منه حيلة.

اغتربتُ عن رضوان أعوام سنوات المقام وراء الستار الحديدي، ولكن زياراتي الخاطفة للوطن لم تنقطع، حرصاً منّي على الحلول في حرم حكماء صحرائي في الجنوب، وحنيناً لارتياد مسقط رأس الوجود، المسكون بدرويشين، هما رأسمال كل ثروة هذا الوطن النبيل: رضوان أبو شويشة وجيلاني طريبشان. ولكن الإفلاس السياسي السائد آنذاك، والقمع الفكري، وانحطاط الواقع الإجتماعي، بفعل أيديولوجيا تحتكر الحقيقة، لتميت بهذا الإحتكار الضمير الأخلاقي، أدّى إلى طرد هذين الطيفين أيضاً، طرد هذين الطفلين الأبديين، ليغتربا بحثاً عن قدس أقداس، صار فجأة عنقاء مغرب في واقع الوطن، وهو: الفرح!

غياب هذه التميمة الإلهيّة من الواقع قادت جيلاني إلى مستشفى الأمراض العقليّة في طرابلس، في وقتٍ تزامن مع دخول رضوان أيضاً إلى المشفى العقلي في لندن، كأنه يتضامن مع قرينه في اعتناق دين الفرح. ولم أجد مفرّاً من زيارته في لندن للإطمئنان، حال سنحت الفرصة، ولكنه كان قد غادر إلى دبلن ليلتحق بعائلته فور تماثله للشفاء. وعندما بلغه نبأ وصولي إلى لندن أبَى إلّا أن يستقلّ الطائرة بشطحة جريئة من وحي سخرية مجبولة بطينة مرح، ليجد نفسه ضيفاً في المعتقل بمطار هثرو! والسبب! السبب غياب تأشيرة الدخول. هناك خضع للمساءلة بالطبع. وكانت أجوبته عبثيّة كعادته، ليقينٍ فطري بأن العبث هو معدن هذا العالم، ويملك سلطة أقوى على روح عالمنا الشرير. ففي جواب عن سبب زيارة لندن، أجاب بأن السبب لقاء صديق قادم من موسكو في طريقه إلى الوطن. وفي جوابه عن استفهام المحقّق لماذا وقع خياركما على لندن للقاء، قال لأن لندن موقع في منتصف الطريق! وهي أجوبة لم تكن لتقنع السلطات الأمنية في زمن بلغ فيه هوس الإرهاب الليبي الذروة، ليتم التحفّظ عليه في المطار، إلى أن تدخّل سيّد قذّاف الدم لإطلاق سراحه، ومنحه مهلة أسبوع للمقام في حضرة الصديق! كان سعيداً وهو يروي لنا تفاصيل التحقيق، قبل أن يختلي بي ليعبّر لي عن استيائه من سيّد قذّاف الدمّ، لأنه وصف حالته النفسيّة بـ«اللوثة»، عندما استودعه مستشفى الأمراض العقليّة في المرة الماضية.

ولم تكن سيرة «اللّوثة» لتستوقفه لولا الإقتناع بوجود «فساد في المملكة الدنماركيّة»، بتعبير شكسبير في هاملت. فاللوثة، وكل ما يمتّ  بصلة للذخيرة المخفيّة في هذه المفردة، هو هاجس ملّة دراويش الحداثة، كما كان هاجس قرينه في الحمّى جيلاني. والسبب بالطبع هو الموقف المبدئي من الواقع. هو القطيعة مع الواقع، طمعاً في ارتياد واقع الحلم، واقع المحال. وعندما يخذل المريد التحليق في فضاء المثال، لن يضمن ألّا تحطّ به الرحال في المشفى: مشفى الأمراض العقلية! حدث هذا مع كل الأبطال الذين خاضوا تجربة الفرار إلى وطن الرؤى السماوية، الذي يسكن البعد الضائع. حدث هذا مع هوفمان، ودوستويفسكي، ونيتشه، وكلايست، وسترندبرغ، وروبرت فالسر، الذي كان شجاعاً بما يكفي كي يواجه الحقيقة، فيذهب طوعاً للإقامة في مستشفى الأمراض العقلية ببيرن، لأمدٍ استغرق ثلاثة عقود، ليموت في فناء المصحّة واقفاً. سقط ميّتاً وهو يتنزّه في البستان في شتاء أحد الأيام، تماماً كما اختار جيلاني أن يموت واقفاً في شعفة جبل نفوسة، عملاً بوصية يوليوس قيصر عن مزايا ميتة الفجاءة، وهو ما لم يشأ رضوان أن يعترف به من خلال استنكاره لتشخيص حالته المرضيّة، المنصوص عنها في عبارة «اللوثة». فمحنة الملّة الرضوانية، ومن شاكلهم، هو العجز عن قبول الصفقة مع الواقع الحرفي، المعادي بطبيعته لأي مقترح يستهدف استحداث تغييرٍ في طينة الواقع كحرف، ممّا سيزعزع تلقائياً ثقة المريد الهشّ، المكبّل بالحساسيّة الروحيّة، بهذا الواقع، فلا يملك إلّا أن يستقيل. والاستقالة من الواقع ستعني الفشل في تصريف «الشأن الدنيوي»، الذي ينصّبه شوبنهاور مقياساً لتحقيق التوازن، الضامن للنجاح في أداء أي واجب رسالي، أي سداد الدَّين بأنفاس الحُجّة الروحيّة. فكلّنا نهفو لأن نطير. كلّنا نحلم بأن نستقلّ جناح المعراج لنرتاد فراديس الحلم يوماً، ولكننا لن نفلح ما لم نجد صيغة لتأمين أسباب العيش، وهو ما لا يتحقق بدون القبول بالهدنة في العلاقة مع الواقع. ومارد القمقم، الذي يعتنقه الدراويش معبوداً، يستنكر الهدنة، لتكتمل الحبكة في نسيج التراجيديا.

والواقع أن سيّد كان أحرص المسئولين على تصريف شئون رضوان، والحدّ من شطط شطحاته، وقد قمت، مع رضوان، بزيارته أعوام اعتكافه الاجباري في سرت، لنستعيد ذكريات زمن السبعينيات الضائع. ولكن ظروفي الصحية في الثمانينيات وشطر من التسعينيات حالت دون تواصلنا، فلم يجد هذا الطيف، الملفّق كله من أعجوبة باسم الروح، مفرّاً من أن يستحضرني في أشخاص أشقائي فنايت، آلة، وموسى، الذين ربطته بهم صداقة صادقة طوال أعوام اغترابي، سيّما فنايت الذي اكتشف فيه قريناً روحيّاً بسبب الهوس بالحريّة، والزهد في حطام الدنيا. وفي الثمانينيات، ثم في بدايات الألفيّة، كثيراً ما سنحت لي الفرصة للقائه ودعوته لتناول طعام الغداء في رحاب قوس ماركوس أوريليوس، المطوّق بتماثيل آلهات ما قبل التاريخ، كأنّ حزام التماثيل المرمري هو طابور شرف لحراسة روح مكانٍ، هو جزء لا يتجزّأ من معبد في يقين المريد رضوان، معبود، كما الحال مع تعويذة الزمان: أويا!

وليس مصادفة أن تكون نكبة رسوم أكاكوس لفنّاني ما قبل التاريخ، الصدمة التي أحيت في رضوان شغفه الوجداني القديم، فاختار التشكيل مبكراً دليلاً لاستكشاف لغز الوجود. فقد تعرّضت أيقونات المتحف الطبيعي الأسطوري في جنوبنا الشقيّ للتخريب من قبل سفلة الواقع المشوّه بخطاب أيديولوجي شوفيني، لم يرَ في ثروات الوطن الروحيّة سوى عدوّ يتحدّى مشروعه الجنونيّ، الذي لم يكفّ عن التحريض ضدّ كل قيمة وطنيّة حقيقية، ليربّي في أبناء الجيل روحاً عدميّة مميتة، لم تعد ترى في الوطن سوى غنيمة نفعيّة، مما أباح اقتراف الخطايا في حقّ كل ما متّ بصلة للذخيرة الروحيّة، بوصفها رجساً من صنع عبدة الأوتان. وكان من الطبيعي أن يستنهض رضوان الأخيار، مع عاشق آخر للتاريخ هو فنايت الكوني، لكي يتصدّوا للحملة الهمجيّة في حقّ روح الوطن الشقيّ، التي لم تكن تجرؤ لتقترف هذا التجديف في حقٍّ لم يعد ملكيّة وطن، ولكنه ملكيّة إنسانيّة، بموجب ميثاق منظمة أمميّة هي اليونسكو، لولا وجود تواطؤ من أجهزة الدولة الرسميّة، المعادية لكل شهادة برهنت على حضور أمجاد في صحيفة الوطن. وكان بيان الاستنكار للجريمة، المنشور في وسائل الأعلام، وساماً آخر على صدر هذا الفارس الذي أبى الواقع أن يعترف له بأية فروسيّة. ولكن عزاء رضوان أنه عاد بفضله إلى أحضان حديقة نعيمه، التي هجرها أعواماً، وهو مساءلة التشكيل، بحثاً عن حجر الحكمة، المخوّل وحده بإنقاذ العالم، كما الحال مع: الجمال. الجمال المخفي في أي تكوين.

حدث هذا قبل المصاب الذي صار لي صدمة لم يكتب لي أن أتعافى منها حتّى رحيله، لأنها لعبت دور العقبة في الوصول إليه: ورم الحنجرة، الذي أصاب في الرجل الحبال الصوتية بالشلل، لأستعيد نادرة رواها لي عاشها عند عودته من إحدى رحلاته إلى الخارج: حيث استقلّ سيارة أجرة من المطار، ليخضعه السائق لاستجوابٍ عصيّ كعادة هذه الملّة، في زمنٍ كان فيه الكلم يقود إلى الحبوس، ممّا دعا رضوان لأن يستوقف الرجل قائلاً أنه خضع لتدخّل جراحي على عضلة اللسان! وليس له أن يجيبه بكلمة واحدة دون أن يخالف وصيّة الأطبّاء! فهل كانت تلك نبوءة في سيرة إنسان وجوده نفسه جنس من نبوءة؟

إتّصلتُ بوزير الثقافة حال بلغني نبأ دخول الطيف المستشفى بتونس، لكي يفعل ما بوسعه لإنقاذ الطيف، لإنقاذ الانسان الذي لم يكن في واقع الوطن سوى الضيف، بل لم يكن ليكون في واقع الوجود كلّه سوى الضيف. ولم يخذلني الرجل. ولكن ما خذلني هو غياب الصوت، في شخص الضيف، برغم نجاة صاحب الصوت، الذي لم يراهن في وجوده على شي كما راهن على حضور الصوت، على حضور العضلة التي اعتاد كهنة معبد أوزوريس في مصر القديمة أن يتغنّوا بمعجزتها وهم يهتفون: «اللسان سعادة! اللسان ربوبيّة!». فبأيّ حقّ ألتقي طيف الزمان رضوان وهو عارٍ من حجّة وجوده بيننا، ومن سلطان معبوده اللسان؟

أيقنت أني فقدت روح رضوان الجنان، قبل أن أفقده كإنسان، مادمت لا أجد فيه اللسان، ولم يفارقني هذا اليقين حتّى عندما زفّ لي الأغيار بشارة الجهاز الاصطناعي، كبديل للحبال الصوتية الضائعة. وأحسب أن هجرته الحقيقية كانت قد بدأت باستقالته من وجوده بيننا، المترجم في حرف الإستغناء عن قدس أقداسٍ هو اللسان، معبّراً بذلك عن اغتراب أمير الفرح، اغتراب روح أمير الفرح، الذي لم يكن سوى التجسيد لمعجزة الروح، تاركاً وراءه «فرح» الجسد، في سليلته، كأنّه يلبّي النّداء، الذي خاطبتُه به يوماً: «خذ فرحك وارحل»، ليفي بالوعد الذي تندّر به دائماً، فيأخذ فرحه حقّاً، يأخذ الفرح كلّه، يأخذ الفرح كمفهوم زاداً في رحلة الخلود.

فأنت الآن يا خلّ الزمان، بحضورك في حرية الأبعاد القصوى، حقّاً الوصيّ على برّ الجنان.

#المرثية #في #حق #أمير #الفرح #من

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد