دورة “المعرض العام للفنون” في مصر.. مسارات قديمة

قدر الفنون في المجتمعات النامية أن تأتي في ذيل قائمة اهتمامات الفرد، وذلك على خلفية مستوى المعيشة المُنخفض الذي لا يمنح رفاهية تعاطي الفن، أو التعامل معه، ناهيك عن مسألة “الأمية الثقافية” المتفشية في مثل هذه المجتمعات. من هنا تولدت علاقة مُرتبكة بين الفرد والفنان جعلت كلا الطرفين يتعايشان في جُزر منعزلة. وربما يعد الفن التشكيلي من أكثر الفنون في سوء الحظ؛ فالوعي الشعبي للمواطن يتعامل مع الفنان التشكيلي على أنه شخص غريب الأطوار يُعرف نفسه كبوهيمي، “أي يعمل ما يحلو له، ويلبس ما يحلو له”، كما يقول الفنان “عيسوي عيسوي” الذي جسد شخصيته الفنان الراحل أحمد راتب في فيلم “يا رب ولد” (1984)، وهي الصورة الأشهر في السينما المصرية لتقديم شخصية الفنان التشكيلي بشكل ساخر.
لا غرابة، إذًا، في عزوف الجماهير عند انطلاق فعالية، أو معرض للفن التشكيلي، ليقتصر الحضور على المتخصصين، وصحافيي الفن، والنقاد، وعلى بعض من أقارب ومعارف الفنان نفسه، فضلًا عن بعض المصابين بالضجر.
في الخامس من الشهر الماضي، انطلقت النسخة 43 من “المعرض العام للفنون”، التي استمرت فعالياته في قصر الفنون في دار الأوبرا المصرية على مدار شهر حتى مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الحالي. عُرض في هذه الدورة ما يزيد على 450 عملًا فنيًا، لـ300 فنان من المُفترض أن يمثلوا كافة التيارات والاتجاهات الفنية، على أن يُراعى في هذه الأعمال التمحور حول مفهوم “ذات مصر المُعاصرة” شعار الدورة الجديدة، فقد اعتاد المعرض في السنوات الأخيرة على اختيار شعارات فضفاضة، مثل “دعوة للرومانسية ـ الأصالة والمعاصرة ـ الفن.. ذاكرة أمة” تسببت في كثير من الأحيان في خلق فجوة بين ما هو مرجو، وبين ما تم تحقيقه على أرض الواقع.
انطلقت الدورة الأولى من المعرض سنة 1969، بتوصية من لجنة الفنون التشكيلية في المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، تزامنًا مع الاحتفال بالألفية الأولى لنشأة مدينة القاهرة. من الأسماء المشاركة في دورة التأسيس زينب السجيني، ولوحتها الشهيرة “أمومة”؛ “الإنسان والتعمير” لمصطفى عبيد، و”الصبي والطوق” لحسن سليمان. وجاء في كلمة بدر الدين أبو غازي، وزير الثقافة السابق: “إذا كان هذا المعرض قد ارتبط هذا العام بألفية القاهرة، فإن بدايته ينبغي أن تلقى استمرارها لتكون تقليدًا في حياتنا الفنية. على أن تجربة البداية، بكل ما فيها، يجدر أن تكون دليلًا موجهًا لخطة الإعداد للمعارض القادمة بهدف إرساء تقاليد لهذا المعرض الرسمي الذي يستحق أن يكون أكبر ظواهر النشاط السنوي في مجال الفنون، وأكثرها دلالة على تقدمها”.

الحاجة إلى جمالية مُغايرة
خصص المعرض هذا العام القاعة الصغرى في قصر الفنون لعرض مجموعة من الأعمال الخاصة، في إطار تكريم ستة فنانين رحلوا عن عالمنا خلال العامين الماضيين، من أعمار وأجيال وتيارات فنية مختلفة ساهمت تجاربهم المميزة على مدارات متفاوتة في إثراء الحركة التشكيلية الحديثة في مصر، يأتي في مقدمتهم الفنانة جاذبية سري (1925 ـ 2021)، التي تحتل مكانة فريدة في حركة الفن المصري المعاصر. قال عنها الفنان الإيطالي كارميني سينسيكالكو: “إن تصويرها تصوير غريزي عنيف مشحون بانفعالات داخلية غير مرتبط بالبحث عن الجمال فقط، على العكس متأهب دائمًا لقلب القوانين والقواعد. إنه فن تشكيلي لا يخضع للشكل والصورة، إنه فن معاصر، ولكن من خلال اللاشعور يعكس دائمًا الأصول القديمة”.

على مستوى المُشاركة، نلحظ عددًا من الأسماء بعينها تتكرر دورة تلو دورة، كما تخلت هذه الدورة كليًا عن المحور الفكري، حيث كانت تُعقد الندوات وحلقات النقاش المتنوعة ضمن فعاليات الدورات السابقة، وهو ما غاب عن برنامج هذا العام. غلبت المواضيع المكررة على معظم أعمال المعرض، مُتنقلة بين ما هو عتيق أو قديم، وفي بعض الأحيان غابت القضية تمامًا، ليطغى الشكل على الموضوع، إلا أن بعض الأعمال القليلة أفلتت من ذلك، حتى وإن استخدمت مفاهيم تقليدية في عملية البناء والخلق، سواء على مستوى المواد والخامات، أو من خلال المنظور الفني نفسه، لكنها قدمت نموذجًا جيدًا لإشكالية العصر الحديث.
مربعات خشبية مُتراصة على الحائط من الأرض إلى السقف تمتلئ بقطع متناثرة من الزجاج والقيشاني المكسور، بعض من الأزرار والمكعبات تختلط بعشوائية حسابية كأنها خريطة كبيرة تحمل تواجدنا داخل العالم الرقمي المُجزأ. وهو ما يتشابه مع عمل الفنان عبد السلام عيد الذي لم يخرج كثيرًا عن ذلك، إلا أن عيد قدم صورة أكثر تجزيئًا للمشهد، وموتيفات أكثر رمزية أيضًا. وفي عمل آخر، يُقدم الفنان أحمد سليمان كتابًا مُجسمًا مفتوحًا صُنعت دفتاه من قطعتي رخام، فيما تتكون صفحاته من ورق حائط نقشت عليه بعض التعاويذ، مع عنوان واضح “قهوة سكرني”، يطرح سليمان إشكالية القراءة والمعرفة وفق آليات العصر الحديث، وكيف أضحى الكتاب دربًا من دروب الأسطورة القديمة؛ خصوصًا حين نلمح كعب الكتاب، وهو عبارة عن رأس لمقشة قديمة.
أضف إلى ذلك عددًا كبيرًا من الأعمال، سواء في التصوير، أو النحت، أو التشكيل في الفراغ، استدعت أطيافًا مُستهلكة لثيمات عالمية، مثل “المسخ لكافكا ـ دون كيخوته لسرفانتس”، وأخرى شهيرة، كالفن الفرعوني، والقبطي، والإسلامي، إلى جانب استدعاء أساليب عدة لفنانين، كالجزار، والسجيني، وغيرهما، وهي أساليب تحمل في داخلها بصمة كل فنان من هؤلاء؛ هذه البصمة المُفتقدة في أعمال المعرض. وهي إشكالية ليست بجديدة، ولكن من الواضح أنها تتفاقم؛ فقديمًا كتب الفنان محمود بقشيش في مجلة “الهلال”- 1999- مقالًا يدعو فيه إلي ضرورة البحث عن جمالية عربية مُغايرة… “وقد قدر علينا ـ نحن العرب ـ أن نتعرض لألوان مختلفة من ألوان الهيمنة الغربية، كان من آثارها الخطيرة أن انتحل العرب نظرة المستعمر الدونية ليمارسوها بين بعضهم بعضًا”.

على جانب آخر، وعقب الافتتاح بيوم واحد، أُثيرت قضية تداولتها بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تُشير إلى وجود عملين في المعرض يتشابهان ويتقاطعان بالنقل، أو الاقتباس، مع أعمال أخرى، كان أولهما عمل محمد حمزة المُقتبس من عمل للفنان محمد ثابت، وقد أقر الأول بذلك، مُقدمًا اعتذارًا رسميًا للمعرض يطلب فيه سحب العمل لوجود تشابه بينه وبين عمل آخر عن غير قصد. أما العمل الثاني فكان لعصام الدين طه المنقول عن عمل للفنان الإيطالي روبرتو فيري، وقد طالب د. أحمد صقر، القوميسير العام للدورة، بسحب العملين المُشار إليهما مع مراعاة ألا يُدرجا ضمن كتالوغ المعرض لدورة هذا العام، علمًا بأن الكتالوغ لم يصدر حتى الآن، على الأقل حتى كتابة هذا المقال.

وسام أسفل السُلم

الفنان محمد عبلة في مرسمه 

 

بعد سنوات كثيرة من الانتظار، وحين أُتيحت له الفرصة، لم يجد الفنان محمد عبلة بدًّا من إنشاء متحف للكاريكاتير المصري “تحية لأرواح مُناضلي هذا الفن” الذين كثيرًا ما تم سجنهم بسبب رسم كاريكاتير ينتقد نظامًا، أو يسخر من ساسة. يقع المتحف في قرية تونس بمحافظة الفيوم، ويُعد الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط. وكان انتظار عبلة أن تأتي مُبادرة التأسيس من قبل الدولة، أو من الجهات الفنية والثقافية في مصر، خصوصًا أن فن الكاريكاتير تحديدًا يُعد من أهم الفنون التي تُساهم في توثيق حقب وفترات تاريخية مختلفة، سواء سياسيًا أو مُجتمعيًا. ويضم المتحف أعمالًا تتناول تاريخ فن الكاريكاتير في مصر، وتُمثل أجيالًا وتيارات مختلفة منذ فترة الثلاثينيات، وحتى الآن، بما يزيد على 500 عمل فني. وهنالك مجموعات خاصة تُعد من أهم ما أنتج مبُدعوها، مثل “حجازي، وطوغان، وصاروخان”، بالإضافة إلى حجرة خاصة بأعمال الفنان جورج البهجوري. في عام 2015، تعرض المتحف لمحاولة سرقة وتخريب متعمد ـ كما صرح وقتها عبلة لجريدة “الأهرام” ـ حيث لم تتم سرقة أي من الأعمال الفنية سوى تمثال، أما بقية المفقودات فكانت عبارة عن أجهزة كهربائية وشاشات للعرض.

المدينة (محمد عبلة) 

في مايو/ أيار الماضي، حصل محمد عبلة على وسام غوته للعلوم والفنون، وهو من أكبر وأرفع الأوسمة الألمانية لغير الألمان، ليتسلم الميدالية في احتفالية كبيرة في معهد غوته بمدينة فايمار بألمانيا. ويُعد عبلة رابع مصري يحصل على هذا الوسام، والسابع عربيًا، ومن أبرز الأسماء السابقة: الشاعر السوري أدونيس، ومن مصر، د. عبد الغفار مكاوي، د. مصطفى مهدي. رأت الجائزة في حيثياتها أن فن عبلة “يُعبر عن البيئة التي ينتمي إليها، كما يتم استخدامه وتوجيهه لخدمه مجتمعه، علاوة على الدور الهام الذي يُمثله في التقارب بين ثقافات الشرق والغرب من خلال الفن واللون”. وعن نظرية الألوان، يقول غوته في إحدى قصائده الشهيرة “لو لم تكن العين كالشمس.. فكيف يمكننا رؤية النور؟ لو لم تكن روح الله داخلنا.. فكيف نبتهج بالعمل الصالح؟”.

لم يقتصر احتفاء المعهد على التكريم فقط؛ ففي مصر يُنظم فرع معهد غوته في القاهرة معرضًا مفتوحًا لمحمد عبلة بعنوان “سيزيف” وهي من أشهر قطعه النحتية، ورغم أن التمثال مُستوحى من الأسطورة اليونانية القديمة، إلا أنه يحمل رموزًا ذاتية للفنان نفسه، الذي يُجسد فيه رحلته الفنية الطويلة. على الرغم من ذلك، جاء التكريم العربي لمحمد عبلة متواضعًا للغاية، لم يخرج عن بعض الاستقبالات الرسمية والاحتفاءات الفردية من قبل بعض المعنيين، أو الأصدقاء، وكان من المُنتظر أن يتم تدارك ذلك باحتفاء يليق وحجم الجائزة العالمية، خصوصًا مع فعالية كالمعرض العام.
يشترك عبلة في المعرض بلوحة كبيرة عن المدينة ـ موضوعه الأثير ـ حين يتماهى البشر مع الشوارع والكباري، وتنداح الملامح وتختلط مع البيوت، المدينة بقعة كبيرة من اللون تنز من جنباتها خبطات الفرشاة مرة بالأزرق، بالأبيض، تدرجات الرمادي لا تنتهي تقريبًا في اللوحة، أما الأسود فيجثم كأشباح متناثرة في سماء المدينة وبين طُرقاتها أيضًا. من الممكن لرواد المعرض التعرف عليها بسهولة فور الدخول من الباب؛ فهي في الجهة المقابلة على بُعد خطوات، وتحديدًا أسفل سلم البهو الرئيسي!

“رباعية الزمن المريض”
كتب الفنان الكبير عصمت داوستاشي عن رباعيته يقول: “الرجل المريض رباعية أنجزتها في هذا الزمن المريض الذي أفسد الحياة والناس، وأفسد متعة النهايات ونحن نتأمل بحزن غروب الضمير”. ويتكون عمل داوستاشي من مجسم رباعي يُسجل كل سطح فيه حالة من حالات ذلك الرجل المريض الذي اختار له أربعة أسماء دونت أسفل العمل “الأدوية ـ البيض ـ المياه ـ الأقنعة”، مُستخدمًا خامات بسيطة من قلب عشوائية الشارع المصري، فهذا جانب يمتلئ بأطباق ألومينيوم رقيقة حُفرت عليها وجوه شبحية لأفراد مُتشابهة ومطحونة في الوقت نفسه.
في جانب آخر، ارتصت عشرات من الزجاجات البلاستيكية الفارغة فوق بعضها على صفين، جانب يحمل إنسانًا آليًا فكاهيًا مصلوبًا على مجموعة كبيرة من الأغطية الصغيرة. أما الجانب الأخير من المُجسم فيحمل عددًا كبيرًا من كراتين البيض الفارغة جنبًا إلي جنب، مرسوم عليها بالأزرق ظل هذا الإنسان الآلي السابق، لكن هنالك بعض البيضات الموزعة قامت بتحديد عينيه وأنفه وفمه وقبضتي يده. يحمل عمل داوستاشي كثيرًا من الرموز متعددة التأويل، إلا أنها كانت أقرب ما ترجم شعار دورة هذا العام للمعرض “ذات مصر المعاصرة”، وفيها نرى مرثية رجل في أواخر العمر أفسدت عليه أمراض العصر مُتعة النهايات، وفي الوقت ذاته تُعبر عن الوضع المعيشي الحالي للمواطن في ظل أزمات تفجر الضحك والبكاء.

#دورة #المعرض #العام #للفنون #في #مصر. #مسارات #قديمة

تابعوا Tunisactus على Google News
[ad_1]

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد