- الإعلانات -

- الإعلانات -

روعة الطبيعة وقوة الضوء وإضافات البشر بين ديوجين وبوسان

في دراستها الطريفة والعميقة التي تبدو جديدة للوهلة الأولى، “العالم البصري والنظرية الفرنسية” الصادر عام 2010، تدرس الباحثة الجامعية الأميركية سارة ويلسون موضوعاً يمكن القول إن قلة من الباحثين المعاصرين قد تناولوه من قبلها: موضوع العلاقة التي استشفّتها بين عدد من أبرز مفكري القرن العشرين الفرنسيين، وعدد من الرسامين الذين رأت نوعاً من التقاطع بين فنهم وأفكار أولئك المفكرين الذين يطلق عليهم العالم الأنغلو–ساكسوني اسماً جماعياً هو أصحاب “النظرية الفرنسية”. ولا تزعم سارة ويلسون في كتابها هذا أن هؤلاء يعبّرون في لوحاتهم عن أفكار أولئك لكنها تبرهن بالاستناد إلى اللوحات نفسها بأن الفريقين ينهلان معاً من خلفيات فكرية وبصرية ماج بها القرن العشرون المعتبر على أي حال عصر الصورة بامتياز.

بين الفن والفلسفة

لمناسبة صدور ذلك الكتاب، أثنى كثر من النقاد على الفكرة غير أن عدداً منهم عاد بـ”ذاكرته” قروناً إلى الوراء في مناسبة الحديث عن الكتاب و”الجديد” الذي أتى به ليشير إلى أن العلاقة بين الفن التشكيلي والفلسفة علاقة قديمة.

على أية حال يمكننا أن نرى تجلياتها على الأقل منذ نزل الفن من مكانته السامية على جدران الكاتدرائيات ليصل إلى منازل سراة القوم وأماكن التجمعات الدنيوية. بالتالي في الوقت الذي بات الإنسان صاحب مكانة في عدد كبير من تلك اللوحات، كان لا بد من أن تكون للفلاسفة مكانتهم فيها، بدءاً مثلاً من لوحة رافائيل الشهيرة “مدرسة أثينا” التي أجمل فيها الفنان تاريخ الفلسفة حتى زمنه من خلال جمعه كبار مفكري الأزمنة منذ العصور الإغريقية، مروراً بلوحات لرمبراندت وروبنز وغيرهما حظي الفلاسفة فيها بمكانة أساسية، ستعتمد لاحقاً في كل مرة يُراد فيها التمثيل على نص فلسفي أو على فصل من حياة فيلسوف ما من خلال بعث صورته إلى الذاكرة البصرية. ولعل الملاحظة التي يمكن تأملها طويلاً هي تلك التي تقترح علينا أن كبار الرسامين، حين أرادوا رسم مفكريهم المفضلين درسوا حياتهم وأفكارهم وحتى “سيكولوجياتهم” بعمق وتأنٍّ قبل أن يقترحوا لهم ملامح وسمات ونظرات تتساوق مع الصورة المطلوبة.

ديوجين في حضن الطبيعة

وفي هذا السياق، لم يشذّ الرسام نيكولا بوسان عن تلك الممارسة، بل لعله تفوق فيها إذ حوّل مثلاً استخدامه لشخصية مفكر قديم من طينة ديوجين إلى لوحة تروي حكاية هذا الفيلسوف أو فصلاً من حكايته بحيث أمست اللوحة التي كرّسها له نوعاً من مشهد طبيعي – تاريخي يعبّر عن أفكار ديوجين من خلال ربطه بالطبيعة التي نعرف أن التعبير عنها كان واحداً من هموم بوسان في الجزء الأكبر من إنتاجه الفني، لا سيما منذ ارتبط أكثر بالمدرسة الإيطالية، التي على الرغم من أن المؤرخين ينسبونه إلى ما يسمونه “المدرسة الفرنسية”، يشكل جزءًا منها في الحقيقة إلى درجة أن سيرة حياته تقول لنا إنه عاش معظم حياته في إيطاليا وإن فرنسا كما البندقية كانتا “من المناطق التي كان كثيراً ما يزورها خلال حياته الطويلة في روما وغيرها”.

أما بالنسبة إلى لوحته التي تكاد تكون من أشهر أعماله “منظر طبيعي مع ديوجين”، فهي لوحة رسمها بين عامَي 1648 و1657 وهي معلقة اليوم في متحف اللوفر الباريسي وتقابلها في “ناشيونال غاليري” اللندني لوحة أخرى شهيرة له هي “منظر طبيعي مع رجل قتلته أفعى” (1648). وإذ تذكر هاتان اللوحتان معاً، فلأنهما تنتميان إلى سياق فني واحد بل سيقول المؤرخون إنهما رُسمتا لتباعا للكاردينال ريشيليو في ما بعد، لكن هذا جانب ثانوي من الموضوع، بخاصة أن لوحة ديوجين سرعان ما انتقلت ملكيتها إلى الملك لويس الرابع عشر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الإنسان الضائع في المكان

في اللوحتين معاً لدينا البنية ذاتها مع فارق في مقاسات كل منهما (لوحة ديوجين ارتفاعها 160 سم مقابل عرض يبلغ 221 سم، فيما يصل عرض الأخرى إلى أكثر قليلاً من 198 سم وارتفاعها إلى 119 سم). وفي الاثنتين، مشهد يشغله شخص محدد وإلى جانبه آخرون، لكن المشهد البشري هذا لا يشغل سوى جزء بسيط من المشهد ككل، إذ من الواضح هنا أن ما أراد بوسان التعبير عنه إنما هو ذلك الاهتمام المتجدد لديه، في واحدة من أهم مراحل نضجه الفني بالعلاقة بين الضوء والطبيعة والهندسة المعمارية بحيث لا يعود الوجود البشري فكرياً كما كان في لوحة ديوجين، أو فجائعياً كما في اللوحة الأخرى التي يدور مشهدها البشري من حول رجل لدغته أفعى، فهبّ آخر هرباً منه كي لا يُلدغ هو الآخر، فيما ثمة امرأة يدهشها هرب الرجل من دون أن ترى مشهد قتل الأفعى للآخر. ولنعُد هنا إلى لوحة ديوجين التي اتخذ فيها الفنان من حكاية قرأها في كتاب ديوجين الآخر، المعروف باللائيرسي، عن حياة “مشاهير الفلاسفة” تروي لنا كيف أن ديوجين المعروف بـ”الكلبي” حين رأى شاباً يشرب الماء بباطن كفه، رمى قصعته جانباً وغاص في مجرى الماء كي ينهل منه على سجيته مباشرة من حضن الطبيعة.

التوليف في خدمة الفن

ولعل الملاحظة الأساسية الأخرى التي تفرض نفسها علينا هنا هي أن بوسان جعل شخصيتَي لوحته هذه تواجهان مُشاهد اللوحة بحيث من الواضح أن ديوجين والشاب الآخر لا يهتمان بالمنظر الطبيعي الذي اتخذ الرسام منهما مجرد ذريعة لرسمه، مركّزاً فيه على العنصرين الرئيسين اللذين لو راجعنا مجمل إنتاجه الفني لتلك الحقبة المتأخرة من حياته، مرحلة أقصى درجات نضجه كما ألمحنا أعلاه، لتنبّهنا كم أنه عبّر خلالها عن ذلك الانتماء المطلق إلى المدرسة النهضوية الإيطالية التي راحت تجعل من الطبيعة، وأحياناً مما يضيفه الإنسان إلى تلك الطبيعة، مركز اهتمامها. بالتالي سيكون في مقدورنا هنا أمام لوحة ديوجين هذه أن نقول إن “الفيلسوف الكلبي” والشاب الآخر حتى إن شغلا مكاناً مركزياً في مقدمة اللوحة، ليسا أكثر من ذريعة للربط المحكم بين العناصر التشكيلية الثلاثة التي أشرنا إليها، والتي نكاد نواجهها على أي حال في معظم نتاجات بوسان لتلك المرحلة، ودائماً من حول عناصر أخرى عدة منتزعة كما الحال دائماً من “قاموس” بوسان: الصخور ومجاري المياه والدروب الملتوية بين الأشجار والأكم والتلال البعيدة في خلفية المشهد، بالنسبة إلى العناصر الطبيعية، ناهيك عن المباني الماثلة وسط ذلك المشهد بالنسبة إلى ما يمكننا اعتباره إضافة الإنسان إلى تلك الطبيعة وهي إضافة يفيدنا الباحثون بأنها قد تكون من عنديات بوسان نفسه وليس من الضروري أن تكون موجودة بالفعل في المشهد الطبيعي الذي نقله، تماماً كما حال الضوء الذي اشتغل عليه بمهارة استثنائية، راغباً منه أن ينير عناصر هندسية متنوعة تجتمع هنا متجاورة في مكان واحد، لا سيما في لوحة ديوجين حيث من الواضح أن بوسان إنما أضفى الطابع الإغريقي البيّن على المدينة البادية في خلفية الصورة كي تتناسق مع إغريقية ديوجين نفسه غير آبه على الإطلاق بما كان واثقاً من أن الباحثين سيكشفون عنه يوماً وهو أن المشهد الطبيعي الذي يشغل اللوحة ككل هو مشهد إيطالي وربما يكون الرسام قد عثر عليه في إحدى مناطق لومبارديا الجميلة، فاستعاره إطاراً للتعبير عن حكاية ديوجين.

انتماء مزدوج

بهذه اللوحة وبلوحات أخرى كثيرة له، أكد نيكولا بوسان المولود عام 1594 في منطقة الآنديليس الفرنسية ليرحل عام 1665 في روما، وعلى الأقل انتماءه في اختياراته الفنية إلى إيطاليا خصوصاً، ولكن إلى الجنوب الأوروبي عموماً حتى إن كان قد وُلد وتلقى دروسه الفنية الأولى في الشمال الغربي الفرنسي، ليتابعها في باريس قبل أن ينتقل باكراً لينضم إلى ما يُعرف بمدرسة فونتنبلو الثانية التي سيلتحق منها بالقصر الملكي حيث سيعيش فترة متجولاً بين تحف المجموعات الملكية. وهو انتقل منذ عام 1624 إلى إيطاليا، حيث عاش حقبة أولى في البندقية، منتقلاً بعد ذلك إلى روما التي لن يلبث أن يرسم فيها لوحات دينية ضخمة بتوصية من الكاردينال ألدوبرانديني، من أبرزها “استشهاد القديس إيرازموس” (1628). وسيمضي بقية حياته في إيطاليا باستثناء ثلاثة أعوام (1640 – 1642)، عاد فيها إلى باريس بدعوة من الملك لويس الثالث عشر، إذ حقق لقصره  لوحات عدة قبل أن يعود أدراجه إلى روما ليمضي فيها بقية ما تبقّى له من العمر.

#روعة #الطبيعة #وقوة #الضوء #وإضافات #البشر #بين #ديوجين #وبوسان

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد