- الإعلانات -

- الإعلانات -

ما الأمل؟ ما العمل؟ (7-7)

ندما ترجع بي الذاكرة إلى العقود الأخيرة وما عايَشه جيلي من صراعات فكرية-سياسية إزاء تصوّراتنا وخُطَطنا للدولة الأفضل والمجتمع الفاضل، تأتيني اليوم بعد نصف قرن من تلك الصراعات، بعد تجربة المعارضة والحُكم، صورةُ تلامذة بالغوا في تقدير ذكائهم حين جلسوا لتدبيج فرض نحو “الحل” وكتبوا أجمل النصوص، إلا أنها كانت كلُّها خارج الموضوع، لأن هؤلاء المغرورين لم يفهموا أصلا سؤال الامتحان.
كان سؤال هذا الامتحان المصيري في الثمانينيات: حيث إنّ ريغان وتاتشر أسّسا النظام الاقتصادي العالمي الجديد، أي سطوة الليبرالية المتوحشة… حيث إن دوَلكم ستصبح -نتيجة هذا التحوّل- إما زبائن أو رهائن… حيث إن السياسات الاقتصادية الجديدة في ظل الفساد الاستبدادي ستقسّم شعوبكم إلى “غلابه” قَدَرهم البطالة والفقر، ونُخب فاسدة تتوحّش للحفاظ على امتيازاتها… حيث إن الهُوة ستتسع بينهم مُبتلعة الطبقة الوسطى التي هي العمود الفقري لمجتمعاتكم… وحيث إن الوضع سينتهي بانفجارات اجتماعية متواصلة تقود إلى ثورات أغلبُها دموية… ماذا أنتم فاعلون؟
لم ننتبه أصلا إلى السؤال وبقينا نتخاصم على الهوية والأصالة والمعاصرة، وهل الإسلام دين أم دين ودولة؟ وهل القومية الصحيحة هي قومية البعث السوري أم البعث العراقي؟
نحن نرى النتيجة اليوم.
ما زال الواقع الساخر من سذاجتنا يلاحقنا بأسئلته المتعددة، وهي منذ عام 2000 تتمحور حول 5 قضايا ضخمة، فهل سنجيب أخيرا عن أسئلة الامتحان أم نواصل الهذيان خارج الموضوع؟
المسألة البيئية
السؤال الرئيس: حيث إن الطفرة الصناعية في الصين والهند ستُفاقم آثام الطفرة الصناعية في أوروبا وأميركا، ومن ثمّ ستتسارع آثار الاحتباس الحراري نتيجة كل ما ستبعث به المصانع الجديدة من غاز ثاني أوكسيد الفحم.
حيث إن أكثر المناطق تضررا منطقتُكم العربية التي ستصبح حسب توقعات المتخصصين، في نهاية هذا القرن، غير قابلة للحياة أصلا نتيجة عَوَز الماء واندثار الأراضي الزراعية وارتفاع الحرارة… ماذا أنتم فاعلون؟
وحيث إن كل التوقعات العلمية تنذرنا بأن التحول المناخي الحادث والمتسارع سيحكم على المناطق الرطبة بمزيد من الرطوبة، أي بمزيد من الأمطار والعواصف المدمرة والمغرقة لبلدان بأكملها مثل بنغلاديش، وأنه سيحكم بتزايد جفاف المناطق الجافة، أي كل العالم العربي مما سيؤدي حتما إلى شحّ أكثر في الأمطار وتناقص متزايد في المياه الجوفية النادرة أصلا وتسارع توسّع الصحراء في أزمة عطش قد لا تبقي ولا تذر [1].
وحيث إن ارتفاع منسوب مياه البحر المتوقع سيدمر آلاف الكيلومترات من شواطئكم ويهدد بإغراق أكبر مدنكم التي تقع على السواحل من طنجة إلى اللاذقية مرورا بوهران وتونس والإسكندرية …
وحيث إن ارتفاع الحرارة المتوقع في المناطق متزايدة الجفاف ينذر بحرائق هائلة -كالتي وقعت في أستراليا وكاليفورنيا- مما يعني تبخر الشريط الأخضر الوحيد في العالم العربي أي غابات شمال المغرب والجزائر وتونس…
وحيث إن بذوركم قد ارتهنتها الشركات الأميركية الكبرى ولم تعودوا تتحكمون حتى في المصدر الأول لقوتكم، ونظرا لارتفاع الطلب على القمح وارتفاع أسعاره في السوق الدولية [2]…
وحيث وحيث وحيث…
ماذا أعددتم من برامج لرصد كارثة التحول المناخي؟
 هل لديكم مجالس علمية تتابع الموضوع وفيها كل المتخصصين وتعود بالنظر مباشرة إلى مجالس الأمن القومي التي وضعت في كل قطر التحول المناخي على قائمة اهتماماتها؟
هل جنّدتم خيرة باحثيكم وعلمائكم في جامعاتكم لتتابع الوضع وتقترح الحلول التقنية المحلية؟
هل نبهتم المواطنين إلى أن يكونوا على وعي بخطورة الظاهرة كي تبرز من العبقرية الموجودة داخل كل مجتمع حلول ربما لم ينتبه إليها جهابذة العلماء؟
هل خصصتم جوائز مادية ورمزية ذات قيمة كبرى لكل من يقاوم الظاهرة ويجد لها هنا وهناك حلولا ولو متواضعة في كل ميدان؟
هل لديكم خطط طوارئ جاهزة بإمكانات كافية وموارد بشرية مدربة لمواجهة الحرائق والفيضانات المرتقبة؟
لماذا لم تظهر إلى الآن أحزاب قوية مثل أحزاب الخضر في أوروبا التي فرضت سياسات جديدة على حكومات قديمة؟
على الصعيد الدولي بما أنكم أنتم العرب من أهم ضحايا هذا التغيير والحال أنكم لم تتسبوا فيه.
أليس من العدل أن من يتسبب في جريمة هو الذي يدفع ثمنها؛ فكيف يطلب منكم وأنتم الضحية دفع الثمن والسكوت على الجريمة؟
هل فكرتم باللجوء إلى محكمة العدل الدولية على أنكم دول متضررة، والتقدم بشكوى ضدّ الدول الغربية وربما حتى ضد الصين والهند احتجاجا على دور هذه الدول في تهديد وجودكم أصلا، شعوبا وأفرادا، وأنتم أمام مخاطر الجوع والعطش وتزايد العنف المدني فضلا عن غرق مدنكم الساحلية وتبخر ما بقي لكم من غابات؟
هل تقدّرون تكاليف ما ينتظركم من خسارة؟ لماذا لا تتقدمون بفاتورتها إلى الدول المسؤولة؟
هل تستطيعون إجبار هذه الدول على دفع التعويضات في غياب الشوكة كما كانوا يفعلون معكم دوما عندما تمس مصالحهم؟
هل يمكنكم طرح موضوع إلغاء الدين وفوائد الدين، وهما من أكبر عوائق تقدمكم، بالعفو عن هذه الدول والمسامح كريم؟
وإذا رفضوا التعويض والعفو؛ فما هي أخطار إلغاء الديون من جانب واحد لتمويل برامج عربية للماء والبذور والتصحر؟
وإذا اتضحت أنها مغامرة أكبر من طاقاتكم؛ فهل يمكن مقايضة إلغاء الديون ببرامج مشتركة لمحاربة التغيير المناخي، تمولها هذه الديون وتنتفع بها شركات الدول المعفاة؟
ألن نضرب جميعا عصفورين بحجر واحد؟ ألن نتخلص نحن من العبء الرهيب بالاستثمار في بناء المحطات الشمسية، وتحلية مياه البحر والزراعة خارج أديم الأرض، والإسهام في بناء الحزام الأخضر الذي جعله الاتحاد الأفريقي هدفا للقارة فتربح الدول المعفاة هي أيضا وشركاتها صاحبة الأولوية في بناء المحطات الشمسية وتحلية المياه وتطوير الزراعة والغابات؟
ألن تسهم مثل هذه السياسة في تخفيف حالة الاحتقان السياسي وإبعاد خطر الحروب الإقليمية خاصة؟ أليس هذا هو الحل أمام ما تخشاه أوروبا وأميركا؛ ألا وهو تدفق اللاجئين المناخيين؟
المسألة الاقتصادية الاجتماعية
إبّان سطوة الاقتصاد الليبرالي؛ لماذا لم تنجحوا في خلق مؤسسات تنتج الثروة؟ لماذا لم نرَ ظهور أشخاص مثل تاتا في الهند أو بنز في ألمانيا، أو داسو في فرنسا أو بوينج في أميركا؟ لماذا لم تنتج مجتمعاتكم إلا مقاولين وفاسدين يتعيشون على الريع النفطي؟
وإبّان انتشار الفكر الاشتراكي في الاقتصاد؛ لماذا لم تنجحوا في بناء شركات حكومية عملاقة كالتي نجحت في الصين وإلى حد ما في كوريا الجنوبية؟
والآن والكل يتحدث عن الاقتصاد التضامني.. ما سبب تأخركم في ميدان يشغل اليوم في أوروبا 10% من اليد العاملة؟
ماذا أنتم فاعلون بـ100 مليون عاطل عن العمل أغلبهم من الشباب ومن حاملي الشهادات العليا، ونموذجكم للنمو الاقتصادي فاشل بل قد تضطرون حتى إلى مراجعة مفهوم النمو نفسه؟
هل صحيح أن هناك مشكلا ثقافيا في علاقتكم بالعمل والمبادرة والتعويل على الذات أم أنها مرحلة ناتجة عن طول علاقتكم المرضية بالحكم الاستبدادي الذي علمكم الرضوخ والتبعية مقابل فتات المائدة ووعود لا تتحقق أبدا؟
ألم يحن الأوان لثورة في تفكيركم الاقتصادي تراجع مفهوم النمو وتربط أهم قطاعات الاقتصاد بالاقتصاد البيئي لضرب عصفورين بحجر واحد، أي الفلاحة والتشجير والطاقات البديلة وكل القطاعات ذوات القيمة المضافة بدل التعويل على السياحة وعائدات النفط لمن لديه نفط أو صناعات بائرة مثل النسيج وهناك دوما أماكن اليد العاملة أرخص من اليد العاملة العربية؟
هل الأمر متعلق حقا بضيق الأسواق؟ وفي هذه الحالة كيف تفسرون نجاح بلدان مثل سويسرا وهولندا والسويد وفنلندا؟ وعلى كل حال ما سبب عجزكم عن خلق سوق واحدة وكل مناطق العالم تتوجه نحو توسيع الاندماج؟
المسألة السياسية
ماذا أنتم فاعلون بمستقبل الأجيال وقد جعلتم من أنفسكم أشلاء دول وشعوب وسط عالم تندمج مختلف مناطقه الجغرافية لتكتسب وزنا كافيا في سباق الأمم وتأثيرها في المصير المشترك؟
بماذا تفسرون أن 27 شعبا أوروبيا يتكلمون 23 لغة ويدينون بأكثر من دين استطاعوا بناء فضاء بـ500 مليون نسمة يتحركون فيه ويتبادلون السلع والأفكار بكل حرية ويحفظون السلام وأنتم شعب واحد بلغة واحد ودين أغلبي لكنكم عاجزون عن تحقيق ما هو بداهة في مصلحتكم؟
هل الأمر ناجم حقا عن وجود أنظمة استبدادية؟ هل بوسع أنظمة ديمقراطية أن تبني الفضاء الواحد أم أن الزعاماتية المرضية والقبلية النائمة بعين واحدة في كل شخص وفي كل شعب ستجعل حتى الديمقراطيات أعجز عن بناء هذا الفضاء الذي يحلم به البعض أي اتحاد الشعوب العربية الحرة؟
إلى متى ستقبلون بموت كل مشروعات التنسيق الإقليمي مثل موت الاتحاد المغاربي والاتحاد الخليجي؟
وحيث إن الاندماج سيكون مفروضا عليكم بحكم أن العالم أصبح شبكة لا مكان فيه لجزر معزولة فماذا ستختارون؟ الاندماج الأفقي كتوابع بالنسبة للدول المغاربية في السوق الأوروبية والدول المشرقية في صلب كيانات إقليمية ودولية أم الاندماج الأفقي الذي سيضمن تواصلكم كأمة سيدة مصيرها؟
المسألة التكنولوجية
حيث إن طفرة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ستجعل منكم دوَلا وشعوبا في حالة تبعيّة تامة لحفنة من الشركات الأميركية تصوغ عقولكم وقلوبكم وتتحكم في أسراركم وتوَجّه انتخاباتكم المفبركة والديمقراطية في الاتجاه الذي يخدم مصالحها… ماذا أنتم فاعلون؟
إن كان ظهور الصين بوصفها قوة إمبريالية جديدة ظاهرة مألوفة والإمبراطوريات تتتابع طوال التاريخ، فكيف نفسر وكيف نتفاعل مع ظهور إمبراطوريات لم تعد بحاجة لفرض الهيمنة إلى جيوش أو أراض تحتلها ويوسع دائرتها الغزاة الأبطال؛ اسمها غوغل وأمازون وفيسبوك وآبل؟ كيف نفهم ونواجه أزمة السلطة وقد تبين قصورها؟ أليست الشكل الاستبدادي أو الديمقراطي؛ ومن ثم ظهور سلط لا تتحمل أي مسؤولية ونزع القداسة عن كل السلط القديمة المسؤولة أمام شعوبها؟ من أين للشعوب ومن يمثلونها التحكم في الشركات الكبرى وهي التي تمتلك كل أدوات السيطرة على العقول والقلوب وليست فقط السيطرة على لقمة عيش مئات الملايين؟ من يسيطر على الفضاء الافتراضي الذي سيصبح عما قريب هو الفضاء الأول لحياتنا، وما نسميه الواقع رافد من روافده مهمته الأساسية تغذيته بالمعطيات والتشكل حسب ما يقرره؟
ماذا أنتم فاعلون والهوة التكنولوجية بينكم وبين الأمم الخلاقة تزداد اتساعا وأنتم في حالة إدمان وتبعية تتفاقم يوما بعد يوم؟
هل انتبهتم إلى أن وسائل الاتصال أصبحت أكبر خطر على اللغة العربية الموروثة من الآباء والأجداد، التي تشكل العنصر الموحد الوحيد لشعوبنا؟
ألا ترون أن استعمالها وتعميمها بالعاميات والعاميات المهجنة بالفرنسية والإنجليزية وحتى العبرية ينذر بتحقيق ما حلم به الاستعمار وفشل في تحقيقه؛ أي جعل العربية تعرف مصير اللاتينية؟
ألا يعني تراجع الفصحى قبلة الموت لحلم الوحدة وهذه اللغات العربية تعزل الشعوب عن بعضها بعضا في حين كانت الفصحى توحّدهم؟
ألا ترون أن وسائل الاتصال هذه بصدد تدمير مقومات الفكر السليم وهي تربي الأجيال على السرعة والسطحية والتذبذب؟
ما الذي ستفعلونه لحماية خصوصيتكم التي أصبحت سلعة تباع وتشترى في سوق الأمن وسوق الإشهار وسوق السياسة؟
كيف ستحمون انتخاباتكم يوما من صناعة الرأي العام وفق أحدث تقنيات وكالات الاستخبارات الدولية وحتى الخاصة المختبئة تحت أسماء شركات خدمات؟
ما الذي فعلتم أو ستفعلون ليكون فضاءكم الافتراضي تحت سيطرة السلطات الوطنية (يوم توجد سلطات وطنية)؟
متى سيكون لكم شركات عملاقة قادرة على الدفاع عن خصوصياتكم وأمنكم المعلوماتي لكي لا تخترق وكالات الاستخبارات جيوشكم ومصانعكم للكهرباء وبنوك جيناتكم في حرب قد تكون أخطر الأسلحة فيها الخوارزميات؟
ماذا أعددتم لموجة الذكاء الاصطناعي التي قد تجعل منكم شعوبا مستعبدة وتابعة وحتى بشرية من صنف “ب” وكل أسباب السيطرة والهيمنة في كل المجالات قد تركزت بين يدي قادة 5 دول عظمى و5 شركات خاصة أعظم؟
أسئلة إلى أمة ضحكت من جهلها الأمم، ويبكي من جهلها من ما زالوا على أمل أن الله، خلافا لما قال نزار قباني، لم يغسل منها بعد يديه.
 
————————————————————-
[1]- في بداية رئاستي بادرت سنة 2012  إلى تسمية مديرا لمركز للدراسات الإستراتيجية تابع للرئاسة، وقلت له انطلق في العمل. قال إن أهم موضوع أريد أن يعمل عليه المركز هو الإرهاب، نظرت إليه طويلا ثم قلت له هذا آخر موضوع يهمني؛ ففتح فمه مدهوشا وكنا في بداية مسلسل ضربات إرهابية كان هدفها وحتى مصدرها واضحين لي. قلت له إن الإرهاب لا يشكل خطرا لا على الدولة ولا على الشعب وهو مصدر إزعاج ظرفي لا أكثر مهما كانت تكلفته موجعة. ما يهدد الدولة والشعب العطش، وكل الدراسات الأولية تثبت أننا نتجه بسرعة نحو أزمة مياه محلية وعالمية؛ لذلك ليعمل المركز على مخاطر نقص المياه وإستراتيجيات الاستعداد للأزمة التي تتهددنا. وفعلا هذا ما تم وصدر التقرير بعد أكثر من سنة وكان أكثر من مفزع، ومع الأسف تتابعت الأزمات والحكومات وترك الملف جانبا.
[2]- كان لي شرف جعل هذا الموضوع حاضرا بقوة عند التونسيين، وانتهت عملية الضغط على الحكومة وإشعار الرأي العام باستعادة تونس سنة 2020 آلاف من بذورها الأصلية المهربة إلى بنوك الجينات في الخارج وانطلاق برنامج للخروج من سطوة البذور المهجنة التي تبيعنا إياها الشركات الأميركية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد