محاولة تجريب بدائل لقصيدة النثر العربية.. ثلاثيات التونسي عبد الفتاح بن حمودة تبعد نفسها قسرا عن الهايكو

من الأشياء المثيرة وكذلك المبهجة في الكتابة محاولة التجريب، لأن الكاتب لا يمتحن فقط مفردات قاموسه في الكتابة، بل كذلك يمتحن قدرته على إخضاع تلك المفردات للتجريب الذي يقوم به.

ولولا هذا التجريب لبقيت الكتابة بمختلف أنواعها الأدبية حبيسة مدرسة واحدة ونمط واحد، بل إنها كانت ستخلق شعراء يكررون أنفسهم وتجاربهم، وصنفا واحدا وخاصا من القراء المتشابهين الذين يملكون ذائقة واحدة.

والشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة لا يمل من عملية التجريب هذه رغم أن مجموعته الشعرية الجديدة “سعادة العشب” هي عمله الشعري الـ13، وصدرت مجموعته الشعرية الأولى “الصباحات” في عام 1996.

الشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة (الشهير بإيكاروس) أصدر قرابة 13 مجموعة شعرية (الجزيرة)

البحر

ولأن بن حمودة -الذي اتخذ لنفسه لقبا شعريا هو “إيكاروس”- ولد في مدينة المهدية الساحلية التونسية (تبعد عن العاصمة تونس 205 كيلومترات جنوبا) في عام 1971، فإنه إضافة إلى إخلاصه للشعر فإن مفردة البحر والقاموس الذي يخص البحر لا يغيبان عن أجواء نصوصه، يقول في قصائده:

“لوعة طحالب البحر

مظاهرة أشجار في الماء

عين حمراء لجبل الصيف”.

ويقول أيضا:

“صخرة قبالة البحر

شباك مزقتها الريح

بصل لزوجة البحار”.

وفي مقطع آخر:

“صيف قرطاجني

عذراء عند الماء

عازفة الكمان”.

ويقول:

“الثالثة فجرا

اللقالق تمزق السماء

حساء الكلمات”.

لكن قاموس البحر لا يكون هو الطاغي هنا وإلا لما كان عنوان هذا الكتاب يخص العشب أكثر ما يخص البحر، فيعثر القارئ على مفردات وقاموس الريف، مثل مذراة القمح، القمح، الفلاح، الفلاحات، العشب، القرية، البستاني، لبن الماعز، أرنب بري.. إلخ.

وبنظرة سريعة إلى مفردات هذا القاموس -الذي يخص هذا الكتاب- نجد وكأنه قاموس لطفل يراقب الأنحاء والأشخاص والأصوات والروائح.

إنه يراقب خلال وحدته الطويلة كل حركة وكل سكون في مكان واسع عليه، وضيق على النفس، ولا يريد أن يقول كلاما كثيرا، بل يكتفي بالنظر والسمع والشم والوصف القليل.

ثلاثيات شعرية

والأمثلة التي سقناها تتردد في نفس الشكل الكتابي في كل القصيدة، فالمجموعة الشعرية هذه هي عبارة عن قصيدة واحدة مؤلفة من 3 أقسام جاءت بعنوان “حارس الرمال”، و”حارس الإسفلت”، و”حارس العشب”، وجاءت كل منها في 134 مقطعا.

أما الأقسام اللاحقة فهي قصائد قصيرة تختلف في شكلها عن الأقسام الثلاثة الأولى، ونعتقد أنه كان من الأفضل عدم إضافة الأقسام اللاحقة، ليبقى الكتاب كله مخلصا لطريقة الثلاثيات التي استغرقت 86 من أصل 95 صفحة.

وكتب بن حمودة هذه الثلاثيات في 3 جمل موزعة على 3 أسطر، وهي جمل اسمية مكثفة وبسيطة في نفس الوقت.

ولأن الشاعر خلال كتابة هذا التكثيف قد محا الكثير فإنه لا بد أن تطغى الرمزية في كثير من الأحيان والغموض في أحيان أخرى، مما يعطي القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاعلهم مع كل مقطع هامشا لفك هذا الغموض والإحساس بمختلف طبقات المعنى.

ليس سهلا على القارئ قراءة مقاطع هذا الكتاب مثلما يقرأ قصائد عادية مبنية على الدراما والقص والبساطة كما حال النسبة العالية من قصيدة النثر التي تكتب اليوم، بل عليه أن يشارك في إظهار ما محاه الشاعر ليصل إلى شكل آخر وكتابة أخرى للمقطع.

“بندقية صدئة

شفرة حلاقة

جندي قبل انتهاء الحرب”.

ويقول أيضا:

“قطعة لحم في فم نمر

سوط فوق ظهر أسد

صفاقة لاعب السيرك”.

وفي مقطع آخر:

“أنياب ذئاب للتمائم

خراف تمرح فوق الوادي

قبور الرعاة”.

وقال صاحب مجموعة “آنية الزهر” حول هذا التجريب ونوع الجملة في الكتابة إن التجريب مثل “مجرفة للأعشاب أو آلة تكشط الحجارة، هو طريق لا بد للكاتب أن يعبره كي يتعلم الاقتصاد في الكلام والابتعاد عن الثرثرة والهذيان”.

وأضاف صاحب مجموعة “ما لا تقوله الفأس وتذرفه الغابة” للجزيرة نت “أحب الجمل القصيرة دوما، وأحب الجمل الاسمية وأمقت الجمل الفعلية في الشعر العربي، لا أحب أدوات العطف والربط في الشعر، أحب دوما أن أقول كلمات قليلة”.

الهايكو

للوهلة الأولى يظن القارئ أنه أمام مقاطع تأتي ضمن مدرسة “الهايكو” الشعرية اليابانية الشهيرة التي تتميز بنمط الومضة وبالبساطة والآنية، وقد سبق لعدد من الكتاب العرب أن كتبوا الهايكو مباشرة باللغة العربية، ناسين أن لهذا النمط قواعد وتقاليد كلاسيكية صارمة لا يمكن بسهولة نقل روحها إلى روح لغة أخرى.

شعر الومضة والتأمل هو شعر ياباني يكتب عادة في 3 أسطر واشتهر به عربيا الفلسطيني عز الدين مناصرة (مواقع التواصل)

وقصيدة الهايكو تأتي كذلك في 3 أو 4 أسطر، وتأتي الأسطر الأولى عادة وصفا لشيء من الطبيعة، فيما يأتي السطر الأخير وصفا يخص الشاعر أو جزءا من أحاسيسه، بمعنى مزج المنظور مع المحسوس أو مزج الطبيعة مع النفس البشرية.

الشاعر التونسي بن حمودة كتب مقدمة لمجموعته هذه الصادرة عن دار ميارة التونسية ينفي هذا الشكل والتقليد الشعري عن نصوص كتابه، ورأى أنه قد تكون نصوصه في نظر البعض شبيهة بالهايكو، لأنها تحمل بعض عناصره “ولكنها ليست كذلك مطلقا”.

واستطرد صاحب المجموعة الشعرية “نزولا عند رغبة المطر” بأنه حاول كتابة قصيدة نثر من 3 أسطر بأداء قائم على الجملة الاسمية “إنها في النهاية محاولة لإيجاد بدائل لقصيدة النثر العربية القائمة على التكثيف والإيجاز”.

وقال للجزيرة نت إن كثيرا من الشعراء الغربيين والعرب “يكذبون بكتابة يسمونها عسفا (هايكو)، والهايكو له أهله وقواعده الصارمة، حتى جاك كيرواك الأميركي كتب هذيانات سماها الهايكو، وهذا رأيي منذ عام 1999”.

قيود جديدة

اتخذ بن حمودة لنفسه لقبا يرفقه دائما باسمه وهو “إيكاروس”، وهي شخصية من الميثولوجيا اليونانية.

وتقول الحكاية إن إيكاروس ووالده كانا مسجونين في جزيرة كريت بأمر من الحاكم مينوس، وللهرب منه ومن عقابه استعان كل منهما بجناحين وألصقهما بالشمع وطارا، ولأن إيكاروس كان يطير قريبا من الشمس ذاب الشمع فسقط إلى الأرض ومات.

وتحتوي العديد من مقاطع هذه المجموعة على مفردات تدل على أجواء الفروسية والحرب والدمار والقتال والموت.

ورغم هذا الكلام عن التجريب قد يقول أحد ما إن تقييد القصيدة بنوع معين من الجمل، وطرد أحرف العطف والصلة، والتقيد بعدد الأسطر يعود بقصيدة النثر إلى القيود التي كسرتها وهربت منها، مما جعلها مطرودة من النقد الكلاسيكي حتى يومنا هذا، لكنها في النهاية حرية الكتابة والفيصل الأساسي الذي يقف إلى جانبه الجميع هو “شعرية النص” من عدمها حين نتحدث عن الشعر.

ورغم غموض العديد من المقاطع وسرياليتها في بعض الأحيان ورمزيتها فإن القارئ النخبوي سيجد هذه المجموعة قريبة إلى ذائقته، وسيشعر بالجمال في ما تم شطبه من بين الأسطر والكلمات، وسيعلي من شأن الكثير من المقاطع بأنها شعر حقيقي كما هذا المقطع:

“بيت طيني تحت مطر الشتاء

مصباح زيتي يضيء جبهة طفل

هدهد في طريقه إلى المدرسة”.