- الإعلانات -

- الإعلانات -

وجوه الحكم في تونس ومعركة البقاء للأقوى في مشهد سياسي متحرّك | الحبيب مباركي

تفتح الأزمة السياسية العاصفة التي تعيش على وقعها تونس باب التأويلات على أكثر من صعيد لتتلاقى عند حدود ضيّقة بين رؤوس الحكم الثلاثة، رئاسة البرلمان بقيادة راشد الغنوشي، ورئاسة الحكومة بقيادة هشام المشيشي، ورئاسة الجمهورية بقيادة قيس سعيّد.
لكن ما بدا جليا أن محور الصراع بين هذه الرئاسات يتركز أساسا حول معركة صلاحيات ومواقع يُراد لها ألا تنتهي ووفق مقاربة ترُوم السير على حواف الأزمة دون إدراك عميق لمآلاتها وما يمكن أن ترتدّ إليه من عصف بمسار الديمقراطية الناشئة برمته.
وخلافا لما جرت عليه العادة أن يكون السجال مرتبطا بإقالة وزير أو التحفّظ على أداء آخر وغير ذلك من المطبّات التي ظلت لسنوات عديدة محور المناكفات السياسية وتتالي الحكومات في تونس، بدا السجال هذه المرة أقوى وأشد تعقيدا من ذي قبل. إنه يرتبط أساسا بمعركة الحكم، وبأي أدوات يجب أن يُدار هذا الحكم: هل بالامتثال للنص الدستوري وما جاءت به أحكامه أم أن الأمر متروك لما يتم تدارسه في الغرف المظلمة من قراءات أحادية الجانب لا تتماهى مع روح هذا النص وتصبح بالتالي فاقدة لمصداقيتها وعديمة الجدوى؟
تتفاعل الأزمة السياسية في تونس بنسق ديناميكي وبمخرجات شتى تتراءى كل يوم بأبعاد فيها من المصلحة الذاتية الشيء الكثير والانفعال والتشنّج في ردود الفعل الشيء الأخطر والأكثر غرابة، فيما بين هذين الخطين يبقى اللاعب الثالث (رئاسة الحكومة) أكثر حرصا على تلميع صورته للظهور بمظهر المستفيد رغم أنه يمثل واجهة لصراع خفي بين قطبين رئيسيين قصرَيْ قرطاج وباردو.
حرب بوجوه متعددة
الرئيس سعيد يختار المواجهة بعد تصريح الغنوشي الذي اعتبر فيه أن موقع رئيس الجمهورية رمزي، ليرد عليه سعيد بالقول إن “كرسي الرئاسة ليس شاغرا وأنا لا ألعب دورا رمزيا كما يدعي البعض”.
الأساس في المعركة من بدايتها بدأ مع تولي سعيد رئاسة الجمهورية بعد الانتخابات الرئاسية الاستثنائية التي جرت في أكتوبر 2019 إثر رحيل الرئيس السابق الباجي قائد السبسي في يوليو 2019 والخطاب القوي الذي صدح به الرئيس سعيّد يوم 23 أكتوبر من العام ذاته أمام من كانوا يتطلعون إلى فهمه أو اكتشافه تحت قبة البرلمان، وكان حاملا لرسائل عديدة -ركزت أساسا على “الشرعية ولا شيء خارج إطار ما تسمح به الشرعية… من يهزه الحنين للعودة إلى الوراء فهو يلهث وراء السراب ويسير ضد مجرى التاريخ”- أخطأ خصومه فهمها.
بقي الرجل على الحياد، باعتباره مستقلا، من كل المناكفات والصراعات الحزبية ومعارك المواقع والاصطفافات التي طبعت المشهد السياسي إلى أن وصلت الكرة إلى ملعبه في مرحلة أولى بعد فشل حكومة الحبيب الجملي في نيل الثقة، ليُعلن على إثرها عن تكليف إلياس الفخفاخ الذي لم يكن مقنعا لخصومه وخارجا عن حسابات جميع الأحزاب وأولها حركة النهضة التي آثرت الصمت في البداية عمّا يمكن أن يكون دليلا ضد الرئيس سعيد قبل رئيس الحكومة المكلف الذي رفض الرضوخ لإملاءات الغنوشي واحتمى بالرئيس، رغم أن كل ذلك لا يشفع له كصك البراءة من كل الاتهامات التي وجّهت إليه في قضية تضارب المصالح.
جاء الدور من جديد على الرئيس سعيّد لكي يعيّن الشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة، فخالف كل التوقعات مرة أخرى وأسند المهمّة إلى شخص المشيشي الذي رأى فيه صفة الاستقلالية التي يمكن أن تكون خير دليل للرجل في أداء مهمته والذهاب في طريق غير الذي سار فيه أسلافه سابقا. لكن لعبة السياسة ككل مرة جاذبة وتُوقع في شراكها كل الذين استهوتهم دروبها التي لا يمكن أن تنطلي على جمهور واسع من التونسيين يراقب المشهد عبر منصات واسعة وكل شيء فيها بالمكشوف.
بارك الجميع حكومة التكنوقراط التي اختار المشيشي السير في تشكيلها والوجوه التي عيّنها لتكون على رأس الحكومة التي اختار لها اسم الإنجاز كغيرها من المسمّيات الكثيرة التي عهدها التونسيون بعد الثورة ولم يتحقق منها أي مسمّى. أتى سليل الإدارة التونسية طالبا الثقة من البرلمان، فكان له أن حصل عليها مع تحذيره من الدخول تحت سقف أي كان والعمل لصالح تونس أولا وأخيرا، وهو اعتقاد راسخ أيضا في قناعة رئاسة الجمهورية التي رأت في المشيشي شخصية تتناسب مع متطلبات المرحلة الحرجة التي تعيشها تونس اجتماعيا واقتصاديا، زادها تفشي وباء كورونا تأصيلا وتأزما. 
ومثلما يقال ويردّد دائما في هكذا حالات “عندما يكون الداء أقوى وأشدّ فتكا من الدواء يصعب على المرء أن يتعافى وتندمل جروحه بيسر”، وهو ما لاح جليّا في أول منعرج للأزمة التي اختار المشيشي أن يُوقع نفسه فيها. فكّ رئيس الحكومة حياديته واختار العودة إلى مربع الأحزاب، سواء أكان ذلك مخططا له من قبل أم بصفقة مقايضة تم الاتفاق عليها في ما بعد، الأمر سيّان. وشاءت المعركة السياسية بعناوينها المختلفة في تونس أن تدفع إلى واجهة الأحداث رؤوس الحكم الثلاثة في صراع مكشوف حول الصلاحيات والتموقع، في دلالة مقيتة على ارتدادات الفاعلين السياسيين وضيق أفقهم للنهوض بمسار التجربة الديمقراطية المتعرّج.
سباق على الصلاحيات

الخطير أن المشيشي رغم الموقف الصعب الذي يضع نفسه فيه لا يزال ينتهج سياسة الهروب إلى الأمام عبر المشاورات المكثفة والاستشارات القانونية بحثا عن قشة نجاة

سباق الصلاحيات والأدوار بان لافتا وفق متابعين للمشهد السياسي في تونس عبر مفاعيل محرّكة للأزمة لا تريد لها أن تهدأ، ترتبط أساسا برأسي الحكم ممثلة في البرلمان والرئاسة وقدرة كل منهما على مكاسرة الآخر وتسجيل نقاط على حسابه. فقد وضع نظام الحكم الهجين طرفي الصراع أمام مواجهة مكشوفة بدا من العسير التكتم على أطوارها ومداراتها وفتحت باب التأويلات على مصراعيه حول قدرة أي من الطرفين على الثبات والمحافظة على النفس الطويل للنهاية.
يدرك الغنوشي أن أي وقت يضيع الآن في تونس سيكون لصالحه، بما يمنحه القدرة على إعادة ترتيب الأوراق والبحث عن فرص للتدارك سواء أكانت من الداخل أم من الخارج. في المقابل يتمسك الرئيس سعيد بموقفه الواضح والصريح بتطبيق الدستور وبكونه يمثل الشرعية القانونية وهو المرجع أيضا لأي تأويل يمكن أن يذهب إليه هذا الشق أو ذاك، خصوصا في غياب المحكمة الدستورية، مثار الجدل القانوني حول أزمة اليمين الدستورية وديمومتها.
ولخّص الرئيس سعيّد في كلمة له الأربعاء الماضي جمعته بمجموعة من النواب في قصر قرطاج طلبا لتوضيحات حول الأزمة الدستورية للوزراء الذين نالوا ثقة البرلمان ولم يؤدوا اليمين أمامه بقوله “لست هنا لتفسير أحلام البعض أو لقراءة أضغاث الأحلام.. الشعب أمامكم وأنا واحد منه والدستور وراءكم وأنا حريص على تطبيقه، فأين المفر؟.. إن الموقف لا يمكن أن يكون موقف الحياد بين الحق والباطل ولا بين الحرية والاستعباد، وإن كان البعض يريد المبارزة بالقانون ويدعي فيه معرفة، فليعلم أن موقفنا هو النص، فالنص بالنص والفصل بالفصل والفصل بين الفصول هو لرئيس الدولة لا لمن فتحوا للأسف منذ 2011 دور شعوذة كتب عليها دور إفتاء”، في إشارة إلى حركة النهضة التي توجه إليها اتهامات وإلى رئيسها بالوقوف وراء الأزمة السياسية العاصفة التي ترزح تحت نيرها تونس. 
وزاد الرئيس سعيد بقوله، ردا على رسائل بعث بها الغنوشي عندما أشار في تصريح له أثار جدلا واسعا وزاد من منسوب التوتر إلى أن موقع رئيس الجمهورية رمزي، إن “كرسي الرئاسة ليس شاغرا ولا ألعب دورا رمزيا كما يدعي البعض”.
بدا الرئيس سعيد واضحا في موقفه من الأزمة، منكرا أن يكون ساعيا إليها أو طامعا في النفخ فيها لجهة وضوح النص القانوني الذي يمنحه الأولوية بأن يكون مرجع النظر، فيما تساور الشكوك خصميه في الحكومة والبرلمان بأن أمد الأزمة مازال طويلا وقد ينفتح على مخرجات لم يكن أيّا منهما مدركا لخطورتها.
الخطير أنه رغم الموقف الصعب الذي وضع المشيشي نفسه فيه، ربما بتدبير مخطط ومدروس من رئاسة البرلمان والحزام الحزبي الذي احتمى به وبإدراك منه أو دونه بأنه قد يلفظه في أي لحظة ليغادر السباق خائبا كغيره من رؤساء الحكومات السابقين، على كثرتهم، إلا أنه وفق مراقبين لا يزال يدفع نحو سياسة الهروب إلى الأمام عبر المشاورات المكثفة والاستشارات القانونية (المحكمة الدستورية أو الخبراء القانونيين) بحثا عن قشة نجاة، متناسيا أنه يخوض الصراع في ملعب خصمه وبأدواته.
منحى جديد للأزمة
الغنوشي يدرك أن أي وقت يضيع الآن في تونس سيكون لصالحه، بما يمنحه القدرة على إعادة ترتيب الأوراق والبحث عن فرص للتدارك سواء أكانت من الداخل أم من الخارج.
أما الأكثر خطورة في هذا الصراع التي تعيشه تونس فهو أن يكون ملبدا بتحريك من أطراف خارجية قد تدخل على خط الأزمة بمسوغات وغطاءات شتى، ظاهرها تقريب وجهات النظر بين رؤوس الحكم فيما بواطنها معلومة ومكشوفة لدى الجميع وخصوصا من المحور القطري التركي، وهو ما نبّه إليه الرئيس سعيّد بشدة، داعيا إلى أنه “يعلم ما يحصل في هذه الأيام من دعوة بعض ممثلي الدول الأجنبية للاستنجاد بها.. نحن وطن حر مستقل قضيتنا وطنية ولا دخل لأي طرف أجنبي فيها”.  
غطت تحركات رئيس البرلمان المتواترة، بمناسبة أو دونها، أمام عدسات الكاميرات على دور رئيس الجمهورية وأظهرته في مظهر “العاجز” عن القيام بدوره، في دلالات عميقة راهن الغنوشي من ورائها على التأكيد أن حركة النهضة هي الماسك بكل أوراق اللعبة، فيما “الإحراج” الأكبر يطال شخص الرئيس سعيّد. لكن هذه الإشارات لم تكن غائبة عن رئيس الجمهورية الذي سرعان ما التقطها وردّ عليها في أكثر من مناسبة عبر رسالة يوجهها، سواء عبر التلميح في مجمل خطاباته أو من خلال الزيارة الميدانية التي قام بها مؤخرا إلى شارع الحبيب بورقيبة وحملت دلالات رمزية على الشعبية التي يحظى بها.
الثابت أن الأزمة على حدّتها وثبات عناصرها الثلاثة على مواقفهم دون تحريك أو تململ وفي غياب أو استحالة التهدئة، سواء من المنظمات الوطنية على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل الذي بقي على الحياد بعد فشل الدعوة إلى حوار وطني ليكتفي ببيانات تحضّ جميع الأطراف على الالتزام بمسؤوليتها، أو من اتحاد أرباب العمل (منظمة الأعراف) الذي أصدر بيانا تحذيريا من تداعيات أزمة التعديل الوزاري على الوضع العام في البلاد، داعيا إلى التحلي بالحكمة واعتماد الحوار لتجاوز الأزمة، أو كذلك من مختلف الشخصيات الوطنية التي تبدّدت أمامها كل السبل والحلول من أجل تبريد الأجواء.
إذن في هكذا جوّ مغلف بالشحن وتمسك كل طرف بمواقفه بات تحريك الشارع هو الفيصل، وهو ما يعكسه البيان الذي أصدره حزب حركة النهضة الخميس يدعو فيه أنصاره إلى الاستعداد للنزول إلى الشارع بكثافة دفاعا عن الديمقراطية. وجاء في بيان الحزب أنه “قرر التشاور مع الأحزاب وكل القوى التي تدعم التجربة الديمقراطية والبرلمان والدستور للنزول إلى الشارع في يوم سيتم الإعلان عنه لاحقا”. وقال المكتب التنفيذي للحركة “ندعو جماهيرنا وشعبنا وكل الأحرار للوقوف إلى جانب تجربتنا الديمقراطية”.
يسعى حزب النهضة إلى تحريك أنصاره كخيار بات مطلوبا اليوم أكثر من أي وقت مضى لإدراكه العميق بأن الخطر هذه المرة قد يأتي على ما تبقى له من أوراق في مشهد بات مفتوحا على كل السيناريوهات، بدءا بعريضة سحب الثقة من الغنوشي في رئاسة البرلمان والتي بلغت توقيع 76 نائبا وتواتر الحديث عن أن نائبته سميرة الشواشي باتت الأوفر حظا لخلافته، مرورا بسيناريو تقديم المشيشي لاستقالته وخلط الأوراق من جديد بما يمكن الرئيس سعيد من استعادة مهمة تكليف رئيس حكومة جديد، وليس انتهاء عند الخسارة المضاعفة للحركة سواء من خلال الحلفاء التقليديين أو لتآكل رصيدها الداخلي بخروج قيادات وازنة سيكون تأثيرها كبيرا هذه المرة على سير الحركة وكيفية موازنة الأمور في سباق المنافسة على الحكم مستقبلا.
تقف تونس اليوم أمام منعرج خطير بتنحّي الصراعات الحزبية جانبا ليدخل رؤوس الحكم على خط الأزمة، وهي دلالة عميقة على حجم الكارثة السياسية التي تتخبط فيها الدولة واستحالَ معها إيجاد مخرج قانوني، فيما يذهب مراقبون إلى أن هذه الأزمة تستمد جذورها من طبيعة النظام السياسي الهجين، وهو أصل المشكلة دائما. 

تابعوا Tunisactus على Google News

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد