سجون السلام… ورش ومتاحف “على أنقاض العذابات” في تركيا

لا يصح تصنيف سجن “جيتاراما” في رواندا بأنه الأسوأ في العالم لمجرد أن 1000 رجل قتلوا فيه خلال عام واحد، أو لأنه يضم نحو 5 آلاف معتقل، فسجون سورية عموماً، وتلك في محافظة تدمر تحديداً، تُخرج فعلياً “جيتاراما” من هذا التصنيف، استناداً إلى شهادات أدلى بها سجناء ظلوا على قيد الحياة، وأكدتها المنظمات الأممية. 
ولا بدّ من التذكير بأن 1200 سجين قتلوا رمياً بالرصاص والقنابل اليدوية في 27 يونيو/ حزيران 1980، بعد محاولة اغتيال الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وذلك للانتقام من شقيقه رفعت الأسد، في حين أنهم لا علاقة لهم بالمحاولة لأنهم كانوا وراء القضبان خلال تنفيذها.
وفيما تُروى شهادات عن الأحوال السيئة في “سجن العقرب” في مصر و”الجويدة” في الأردن و”الرومي” في تونس و”رومية” في لبنان، وحتى في سجن أبو غريب العراقي حين أدارته الولايات المتحدة، تزداد الحيرة بمعايير تصنيف السجن الأسوأ أو الأكثر وحشية، استناداً إلى المؤشرات التي نقلها أشخاص بقوا أحياء وغادروا هذه السجون، في شأن الخروج على القوانين ومعايير السلوك الإنساني.
وحين تذكر المعتقلات وأماكن التعذيب في المنطقة يقفز سجن ديار بكر جنوبي تركيا إلى الواجهة، بسبب ما شهده منذ افتتاحه في يوليو/ تموز 1980، كأحد منجزات انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، واحتفاظه بخصوصية ربما يتفرّد بها على صعيد كون جلّ نزلائه ومن قتلوا وتعرضوا لتنكيل داخله كانوا من لون واحد (أكراد).
وتؤكد شهادة محمد صديق ميش الذي خرج حياً من سجن ديار بكر، والدعوة التي أطلقتها منظمة العفو الدولية العام الماضي للتحقيق في تعذيب سجناء، وما شغل الإعلام التركي بعد التقرير الذي قدمه النائب عن حزب الشعوب الديمقراطي في تركيا محمود جلادات جايدالي، في شأن عمليات التعذيب داخل السجن، أن جلّ نزلائه من الأكراد. ويعزز ذلك تصنيف صحيفة ذا تايمز البريطانية عام 2008 سجن ديار بكر في المرتبة الرابعة بين الأسوأ عالمياً.
وبعدما استجاب لطلب التحقيق في حالات تعذيب اتُّهم القائمون على السجن بارتكابها، قرّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إغلاق السجن من أجل طوي مرحلة التعذيب وتحويله، بقرار رئاسي، إلى صرح ثقافي وفني، فهو أعلن خلال تدشين مشاريع في ولاية ديار بكر أخيراً إخلاء السجن، وتسليمه إلى وزارة السياحة والثقافة من أجل تحويله إلى متحف، وقد أكّد تمسك حكومته بتحويل تركيا إلى واحة سلام. 

يقول عضو حزب “العدالة والتنمية” الحاكم يوسف كاتب أوغلو لـ”العربي الجديد”: “عاشت تركيا ما بعد انقلاب عام 1980 الذي قاده أحمد كنعان ايفرين ضد حكومة سليمان ديميريل المرحلة الأكثر سواداً في تاريخها الحديث، بافتتاح 116 معتقلاً منها سجن ديار بكر. أما خطوة الرئيس التركي أردوغان اليوم الخاصة بتحويل السجن إلى متحف فترسخ التمسك بتحويل الحقبة العسكرية ومعتقلاتها إلى مؤسسات ثقافية وإنتاجية، خاصة سجن ديار بكر الذي شهد تنكيلاً بالأخوة الأكراد”.

أغلقت تركيا 17 سجناً خلال السنوات الأخيرة

ويردّ كاتب أوغلو على سؤال وجّهته “العربي الجديد” عن فتح حزب “العدالة والتنمية” منذ توليه الحكم عام 2002، 180 من أصل 400 سجن تضمها تركيا حالياً، وهو العدد الأكبر منذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، بالقول: “أؤكد أن حزب العدالة والتنمية ألغى 17 سجناً خلال السنوات الأخيرة، وأدخل الرعاية الصحية للسجناء في جميع المعتقلات، وربطهم بالإنتاج لخدمة مصالحهم، كما فتح أبواب السجون كلها أمام زيارات اللجان الأممية لتتحقق من أي ادعاءات يطلقها سياسيون معارضون”.
ويرى أن “قرار الرئيس بتحويل سجن ديار بكر وغيره قريباً إلى متاحف، يوجه رسالة لجميع الدول بأن تخطو خطوات تركيا نفسها على صعيد قلب السجون والمعتقلات إلى مراكز تنموية وإنتاجية. وستصدر تركيا قريباً عفواً عاماً وتتنازل عن أحكام الحق العام المتخذة ضد سجناء محكومين بأقل من ثلاث سنوات، أو أولئك الذين اقترفوا جرائم لا تمسّ بأمن الدولة”.
وحول أسباب تأخر السلطات في إغلاق سجن ديار بكر، يؤكد كاتب أوغلو أن “حزب العدالة والتنمية حوّل السجن، منذ أن تسلم الحكم، من معقل لممارسات التعذيب إلى مكان يضم ورش عمل زوّدت السوق التركي بنحو 80 طناً من مادة الكولونيا المعقمة خلال فترة انتشار وباء كورونا”.

وتتجه تركيا نحو تحويل السجون “ذات السمعة السيئة” إلى متاحف، بحسب ما يقول المتخصص في السياحة فهري ايت لـ”العربي الجديد”، و”ذلك لتبديد النظرة الخاصة بسنوات القمع التي واكبت الانقلابات العسكرية، وجذب السياح وتعريف حتى الأتراك نفسهم على التاريخ الحديث، وما شهده من تبدلات ضد الظلم”.
سجن “أولوجانلار” سابقاً
ويلفت إلى أن “سجن ديار بكر ليس الأول الذي يتحول إلى متحف في تركيا، بل سبقه سجن أولوجانلار الذي افتتح عام 1925، ثم حوّلته حكومة العدالة والتنمية عام 2011 إلى متحف للزوار كي يعيشوا حياة السجناء عبر التجوّل بين الساحات والزنزانات”.

تركيا تعتمد نهج السجن نصف المفتوح

ويشير إلى أن “سجن أولوجانلار القديم ذا الشهرة في تركيا، شهد إعدام شخصيات مهمة في تاريخ البلاد، وتوفي فيه رئيس الوزراء بولنت أجاويد والشاعر ناظم حكمت، لكنه تحوّل اليوم إلى متحف ومركز ثقافي يستضيف الحفلات والمؤتمرات والأفلام. وتحويل السجون إلى مراكز تنموية وثقافية ترفيهية خير اعتراف وتكفير عن سنوات الاضطهاد”.
لكن متابعين يرون أن “تحويل سجن ديار بكر إلى متحف يشمل منطقة محددة وقبل تاريخ الانتخابات، في حين من الضروري إغلاق جميع السجون التي شهدت معاملات غير قانونية وإنسانية، خاصة تلك التي رافقت انقلاب عام 1980”. 
ويصف الباحث التركي باكير أتاكجان خطوة تحويل سجن ديار بكر إلى متحف بأنها “متأخرة جداً، إذ إن سمعته السيئة تعود إلى أربعين عاماً، علماً أن حزب العدالة والتنمية رفع شعار الحرية والديمقراطية منذ وصوله إلى الحكم عام 2003”.

ويضيف في حديثه لـ”العربي الجديد”: “لا يكفي تحويل سجن أو سجنين إلى متاحف، وأسأل ما الضرر من تحويل جميع السجون القديمة إلى متاحف ومراكز ثقافية، وتطوير نهج ورش الإنتاج في السجون التي تشكل مبادرة مهمة لضمان مداخيل للسجناء، وتساهم في إبعادهم عن ذهنية الترهل أو اليأس والإجرام، علماً أن ورش الإنتاج في السجون توجد نهج السجن نصف المفتوح الذي يتيح للسجناء لقاء من يشغلونهم من تجار ومسوقين”.
ويفيد تقرير نشرته صحيفة “يني شفق” التركية بأن “302 من أصل 374 سجناً في تركيا تضم ورش عمل مختلفة، وتقدم دورات للتدريب المهني”.
ويشير إلى أن “فكرة ورشات العمل في السجون التركية بدأت قبل 20 عاماً، وباتت تشمل اليوم أكثر من 180 مجالاً مهنياً ينشط فيها أكثر من 58 ألف سجين الذين يحصل 1000 منهم سنوياً على شهادة مهنية معتمدة تتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي، ما يسهّل عملية اندماجهم في المجتمع بعد انتهاء فترات أحكامهم”.
ويركز تقرير الصحيفة أيضاً على سجن “مالتبه” الذي يعد بين أكبر سجون تركيا ويضم 2800 معتقل، ويكشف أن 300 من السجناء يعملون في ورش للخياطة والألبسة، وآخرين في مجالات إنتاج أخرى، وأنهم جميعاً يتمتعون بتأمين صحي.